-->

مفهوم النظام العام في قانون حماية المستهلك



تعد الإرادة هي أساس التعاقد فللفرد كامل الحرية في أن يتعاقد أو يمتنع  عن التعاقد، وفي أن يختار من يريد أن يتعاقد معه ، و في تحديد مضمون العقد ، استناداً لمبدأ سلطان الإرادة.
و عليه فالعقد يجد مصدره في إرادة الفرد، تلك الإرادة التي لا يمكن أن تكون في غير صالح صاحبها مما يحقق مصلحة الطرفين معا ،  وبذلك فإن جل  الالتزامات المنشاة بين المتعاقدين على وجه صحيح، تقوم مقام القانون بالنسبة لمنشئيها  لأنها تعبر عن اتحاد إرادتي المتعاقدين وهو ما نص عليه الفصل 230 من ق ل ع ، وبالتالي  فما  دامت  إرادة  الإنسان حرة  ، فإن الالتزامات بدورها عادلة ،  و لا يمكن  للقاضي  تعديلها  أو إلغاؤها  إلا بإرادة المتعاقدين أو في الحالات التي ينص عليها القانون .
و تجدر  الإشارة  إلى  أن  مبدأ سلطان الإرادة لم يظهر إلى الوجود إلا في العصور الوسطى و ترجع  أصوله إلى العهد الكنسي الذي كان يوجب الوفاء بالوعود بل ويعتبر مذنبا من نقض وعده ، أما  قبل هذه المرحلة فلم يكن هذا المبدأ معروفا ، فالقانون الروماني لم يقر به في أية مرحلة من مراحل تطوره طالما كانت صحة وإلزامية الاتفاقات مرتبطة بضرورة  صبها في قوالب شكلية أو بمجرد تبادل إشارات أو عبارات محددة دون النظر إذا ما كان سبب الالتزام مشروعا أو مخالف للنظام العام  و الآداب العامة و قد ظل الأمر كذلك حتى بعد ظهور بعض أنواع من العقود بحيث ظلت الشكلية فيها هي الأصل و ظلت الرضائية مجرد استثناء[1].
و مع  تطور الحياة  الاجتماعية  و الاقتصادية  دعت  الضرورة  إلى   تبني هذا المبدأ فظهر أنصار المذهب الفردي ، و الذين  نادوا  بتقديس حرية الفرد وتقوية دوره في جميع المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و كذا القانونية ،  و قد توج  ازدهار هذا  المبدأ بتكريسه في  مدونة نابليون (1804) و أصبحت  الرضائية  العمود الفقري في التعاقد.
 إلا أن السؤال الذي يطرح  هل الإرادة  كافية لتحقيق العدالة ؟
أو بمعنى أخر هل لازالت  الإرادة قادرة على تحقيق العدالة  و خصوصا أمام هذه التحولات الاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية و التقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم؟
و هل أضحت  الدولة مطالبة  بالتدخل  في  العلاقة  التعاقدية للحد من هذه الإرادة من خلال فرض قيود تحد منها؟
و نتيجة  لهذه  التحولات  التي  عرفها  العالم ، عرفت  النظرية التقليدية انتكاسة أو ما يعرف "بأزمة العقد" و التي  أدت  إلى تراجع مبدأ الرضائية  ، حماية  للطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية و نخص الذكر  هنا  المستهلك  بصفته  الحلقة  الأساسية  في  الميدان الاقتصادي .
 فالحاجة  قد   تدفع  المستهلك إلى  التعاقد  بدون أن  يدرك ما  إذا كان  المنتوج  الذي  يتعاقد بشأنه قد  يخدم مصالحه أم لا ، و ذلك  لاحتكار  بعض  المؤسسات للسلعة أو الخدمة ، فتملي إرادتها و شروطها  المعدة  مسبقا  على الراغبين  في  التعاقد  معها دون أن يملكوا إمكانية مناقشة هذه الشروط ، لتحقيق  الربح  السريع  على  حساب الطرف الضعيف الذي يضعف أمام المغريات أي الإعلام الكاذب التي قد تغيب إرادته ، مما  قد يخل  بمبدأ  التوازن العقدي و بالتالي عدم تحقيق عدالة عقدية.
و أمام  محدودية   الحماية   التي  يقرها  المشرع للمتعاقد في إطار النظرية التقليدية المقررة  لحماية الطرف الضعيف كالإبطال  لعيب من عيوب التراضي  و إبطال الشروط التعسفية في بعض  أنماط التعاقدية  كالقرض  أو بطلان  العقد  لقصور في  السن  أو العقل وكذا الحالات الموجبة للفسخ ، إذ لا وجه للتخصيص فئة المستهلكين بأي امتياز في ظلها [2] .
فقد  دعت الضرورة الاجتماعية و ا لاقتصادية إلى تدخل الدولة لحماية الطرف الضعيف من خلال  قواعد  تحقق التوازن العقدي ، الشيء الذي لفت انتبه المشرع المغربي  فأصدر قانون خاص بتحديد تدابير لحماية المستهلك ، و هو القانون رقم 31.08  و من  بين  الوسائل  التي نص عليها المشرع  حماية  للطرف  الضعيف  قواعد آمرة  لا  يجوز للأطراف الاتفاق على مخالفتها بحيث نص  في  نهاية كل الباب على أن هذه مقتضيات من  النظام العام  هذا الأخير لم  يقتصر دوره  فقط  على  الحد  من سلطان الإرادة و تحقيق التوازن داخل العقد بل أصبح النظام العام يقوم بتقوية مبدأ سلطان الإرادة و خاصة في حمايته للطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية[3] ، بالإضافة  إلى أن الجزاء  لم يعد  يقتصر  فقط على البطلان و الإبطال و إنما تم إقرار حماية جنائية متمثلة في غرامة مالية .
فإلى أي  حد  استطاع   المفهوم الجديد  للنظام العام  التوفيق  بين  الحد من سلطان الإرادة و تحقيق التوازن العقدي وبين حماية الطرف الضعيف و تحقيق العدالة التعاقدية ؟

        المبحث الأول : ماهية  النظام العام في القواعد العامة
    لتحديد  ماهية  النظام  العام  في القواعد العامة ، يتعين علينا  تعريف فكرة  النظام العام  و لماذا  ربطها  المشرع بالآداب العامة  (المطلب الأول) ، ثم تحديد  الجزاء المترتب على مخالفة النظام العام في القواعد العامة (المطلب الثاني).
    المطلب الأول : تعريف فكرة النظام العام و ارتباطها بالقواعد العامة
    تعتبر  فكرة  النظام  العام من الأفكار الواسعة  المرنة التي  يعوزها التحديد  لدرجة  أنه  يصعب  وضع  تعريف  جامع  مانع  لها[4]، لذا  فإن  أغلب  التشريعات  لم تعمد إلى وضع تعريف  دقيق  للنظام  العام  تاركة  بذلك  المجال   للفقه لوضع  هذا  تعريف ، حيث عرفه  بعض  الفقه  كمجموعة   قواعد   منشأة   من  طرف  المشرع   لصالح  المصلحة  العامة للمجتمع[5].
    و ذهب  البعض  الآخر  إلى  تعريفه   بأنه  مجموع   القواعد   الآمرة   التي  لا  يمكن  مخالفتها  من قبل   الأطراف ، في  حين ذهب آخر إلى  اعتباره  ذلك القانون  الذي  يمس مصالح الجماعة و الذي يحدد في إطاره الأساس القانوني الذي يقوم عليه النظام الاقتصادي و الأخلاقي للمجتمع[6].
    فتعدد  التعاريف  حول  مفهوم  النظام  العام  راجع بالأساس إلى صعوبة وضع تعريف شامل  لهذا  المفهوم المرن ، حيث  عبر  بعض  الفقهاء على هذه  الصعوبة  بالقول :

    " إن  النظام  العام  يستمد عظمته من ذلك الغموض الذي   يحيط  به  و من  مظاهر  سموه أنه  ظل  متعاليا  على  كل الجهود  التي  بدلها  الفقهاء لتعريفه "[7]
    و على الرغم من هذا  الوضع  فإنه  يمكن القول  بشكل عام  و تقريبي  أن  النظام العام هو  مجموعة  المصالح  الأساسية  التي  تشكل  ركيزة  كيان المجتمع ، و من ثم فإن قواعد النظام  العام  هي  التي  تستهدف تحقيق  مصلحة  عامة  سياسية أو أخلاقية أو اجتماعية أو اقتصادية ، و يقصد  بالمصلحة   العامة  كل  ما تتصل  بالنظام  الأساسي  للمجتمع  بحيث يرجح  على كل مصلحة فردية ، لذلك  يتعين على كافة الأفراد احترام متعلقات النظام العام و لو ترتب عن ذلك تضحية بمصالحهم الذاتية[8] .
     هذا  و تجدر الإشارة ، أن النظام  العام  يتصف بصفة  النسبية ، لأن نطاقه يختلف من بلد إلى آخر ، كما   يختلف  داخل   البلد  الواحد   باختلاف  حضارته  و ظروفه  السياسية  و الاقتصادية و الاجتماعية و الأخلاقية ، لذلك  فالقاضي  هو  الذي  يملك  صلاحية تحديد مدى  تعلق  حكم  معين  بالنظام  العام ، و هو  ما  يسمى   بالنظام  العام  غير  النصي  أو التقديري ، و هو يقابل النظام  العام  النصي الذي   يتدخل  بمقتضاه المشرع ليحدد  خاصية النظام العام  في  نصوص آمرة ، كما  فعل  المشرع  المغربي  في مجموعة من النصوص في قانون الالتزامات و العقود مثل الفصول (61 ،62 ،77،78 ،108 ،109 ،110 ،111 ،484 ،728 ،729،772،870...) 9
    فكل هذه النصوص الآمرة  تعتبر  قيدا  على حرية  الأطراف  في التعاقد ، و عليه  فإن النظام  العام لا يمكن تصوره إلا في ظل نظام قانوني يعترف بمبدأ سلطان الارادة و الحرية التعاقدية ، فهو بمثابة  حاجز [9]أمام الحرية التعاقدية للأطراف ، و هذا ما نص عليه المشرع الفرنسي صراحة في المادة 6 من القانون  المدني  الفرنسي ، حيث  اعتبر أن وظيفة النظام العام تنحصر في الحد من الحرية التعاقدية.
    أما  المشرع  المغربي  في  قانون  الالتزامات و العقود  لم يأخذ  بحرفية  المادة 6  من القانون  المدني  الفرنسي ، و إنما   نص  على  النظام  العام عند  معرض تنظيمه للسبب ، فنص على أنه  يكون السبب غير  مشروع  إذ   كان مخالفا للأخلاق الحميدة أو للنظام العام أو  للقانون ، و ذلك  في  الفصل  62  من  ق.ل.ع ، كما  نص على النظام العام عند تقرير مشروعية المحل و ذلك في الفصل 57 .
    و عليه  استخلص الفقه المعاصر أن النظام العام يركز على  العناصر المادية في العقد ، و هما  المحل  و السبب ، أكثر  من  العناصر  الارادية و هما  الأهلية و الرضا ، مما  دفع  البعض إلى القول  بأن النظام العام لا يطبق إلا على المحل و السبب 10
    و إضافة  إلى  المحل  و  السبب  نص  المشرع على أن العقد إذا تضمن شرطا فإن هذا الشرط  يجب  ألا  يكون  مخالفا  للأخلاق  الحميدة  أو  للقانون و ذلك في الفصل 108 من ق.ل.ع.
    هذا  و من  الأمور التي  تجدر ملاحظتها في هذا الصدد أن المشرع عند تنصيصه على النظام العام فإنه يربطه دائما بالآداب العامة و الأخلاق الحميدة.

·       فما المقصود بالآداب العامة ؟ و لماذا ربطها المشرع بالنظام العام ؟

    تعتبر   فكرة   الآداب  العامة   على  غرار  فكرة  النظام  العام ،  من  الأفكار  المرنة المتغيرة   التي  يصعب تحديدها ، لذا  فإن المشرع  لم يحدد مفهومها  تاركا أمر ذلك  للفقه الذي  بادر إلى تعريف الآداب العامة بأنها مجموعة القواعد الأخلاقية التي يقوم عليها  نظام المجتمع ، و التي   يرى  الناس   أنها واجبة  الاتباع في علاقاتهم ، و لذلك لا يباح الخروج عليها عن طريق اتفاقاتهم الخاصة.
    و لما  كانت  هذه  الفكرة   تشمل مجموع  المصالح و القواعد الأخلاقية التي يقوم عليها نظام  الجماعة ، فهي  تتصل  بنظام المجتمع و تمس كيانه ، و عليه فإن هذه  الفكرة  تدخل  في  فكرة  النظام  العام   بمعناها  الواسع ، حيث  اعتبر بعض الفقه أن  الآداب العامة  هي التعبير  الخلقي  عن  فكرة   النظام العام ، لذا يقال عادة النظام العام و الآداب العامة ، علما أنه إذا كان   يقصد بالآداب العامة قواعد الأخلاق فليس المقصود منها قواعد الأخلاق بصفة عامة ، و إنما   يقصد  منها قدر من  هذه القواعد الذي يمثل الأصول الأساسية للأخلاق في المجتمع ، أي عبارة عن  الحد  الأدنى من القواعد الخلقية  التي تعتبر لازمة للمحافظة على المجتمع من الانحلال ، بحيث بفرض على الجميع احترامها و عدم المساس به 11
    إذن و بعد   تحديد فكرة  النظام  العام  و الآداب العامة ، فإن السؤال الذي يطرح  نفسه  حول  آثار  مخالفة  الأطراف  المتعاقدة  للنظام  العام  و الآداب العامة ، و هو ما  سنحاول التطرق إليه في المطلب الموالي.



11 عبد المنعم فرج ، نظرية العقد في قوانين البلاد العربية  ، دار النهضة العربية ، ص 338

    المطلب الثاني : آثار مخالفة النظام العام في القواعد العامة

    سبقت الإشارة  أن  النظام  العام  بعد  من الأمور التي لا يجوز للأفراد مخالفتها ، حيث يتوجب  عليهم  عدم  المساس  بها  في اتفاقاتهم الخاصة ، و بذلك  يعتبر النظام  العام  كقيد على مبدأ سلطان الإرادة.
    و عليه  فإذا  خالفت الأطراف المتعاقدة أي مقتضى اعتبره المشرع من النظام العام كان جزاء ذلك البطلان ، و من ثم فإذا كان الالتزام مبنيا على سبب غير مشروع لمخالفته للنظام العام أو للقانون أو للأخلاق الحميدة ، فإن الالتزام في هذه الحالة يعد كأن لم يكن ، و هو ما نص عليه المشرع في الفصل 62 من قانون الالتزامات و العقود .
    كما يكون الالتزام باطلا   كذلك إذا  كان  محله  من  الأشياء التي يحرم القانون صراحة التعامل بشأنها .
    كما أنه إذا علق الالتزام على شرط مخالف للآداب العامة أو للقانون ، كأن يرمي الشرط إلى حمل الشخص على القيام بعمل ينافي القواعد الأخلاقية  الواجب  صيانتها و حمايتها 12
فإن الشرط في هذه الحالة  يكون باطلا ، و يسقط  الالتزام  الذي علق عليه ، حسب ما نص
عليه المشرع في الفصل 108 من قانون الالتزامات و العقود .
    هذا و قد عرض  المشرع  على  وجع التخصيص بعض أنواع الشروط غير المشروعة التي  تقع  باطلة ، و تؤدي إلى بطلان  الالتزام الذي يعلق عليها ، و ذلك في الفصلين 109 و 110 من قانون الالتزامات و العقود .
    ففيما يتعلق بالفصل 109 ، فقد نص في فقرته الأولى على أن :

   "   كل  شرط   من  شأنه  أن  يمنع  أو يحد من مباشرة الحقوق و الرخص الثابتة لكل إنسان ، كحق  الإنسان في  أن  يتزوج ،  و حقه أن  يباشر  حقوقه  المدنية  يكون  باطلا  و  يؤدي إلى بطلان الالتزام الذي يعلق عليه "

و مثال ذلك ،  إذا  وهب  شخص  مبلغا  من المال لآخر ، و علق هذه الهبة على شرط عدم ممارسته  حق  الزواج ، أو عدم  ممارسته  حق  الولاية  على  أولاده القاصرين ، ففي هذه الحالة  يكون  الشرط  باطلا ، و كذلك الهبة التي  تكون  معلقة  على تحقق مثل هذا الشرط تكون باطلة أيضا 13 .


12 عبد الكريم شهبون ، الشافي في شرح قانون الالتزامات و العقود المغربي ، الكتاب الأول الالتزامات بوجه عام ، الجزء الثاني ، ص 10.
13 عبد الكريم شهبون ، مرجع سابق ، ص 12

    أما بخصوص الفصل 110 فقد نص في فقرته الأولى على أن :
    " الشرط الذي ينافي طبيعة الفعل القانوني الذي أضيف إليه ، يكون باطلا ، و يبطل الالتزام الذي يعلق عليه ... ".
    و من  أمثلة  هذا الشرط ، أن  يبيع  شخص  بناء و يشترط  على  المشتري  منعه  من التصرف  في المبيع  بصورة مؤبدة ، ففي  هذه  الحالة  يقع  الشرط  باطلا  لأنه ينافي حق المالك في التصرف في ملكه ، و بطلان الشرط يؤدي إلى بطلان البيع المعلق عليه 14
    هذا و تجدر  الإشارة  أن  تنصيص المشرع المغربي على ضرورة أن يكون الشرط غير مخالف للآداب العامة أو للقانون ، إنما  يهدف  بالأساس  إلى  منع  فرض  طرف  شروطا تعسفية على الرف الآخر ، تحقيقا للعدالة التعاقدية .
    لكن و على إثر التطور الهائل  الذي  عرفته أنماط التعاقدات المدنية و التجارية على حد سواء ، فإن  المعاملات  لم  تعد  تقتصر على  عقود  المساومة الحرة التي تنبني على تكافؤ المراكز القانونية و الاقتصادية  للمتعاقدين ، بل  ظهرت إلى حيز الوجود أشكال أخرى من التعاقد  يختل  فيها  عنصر التوازن  بين  أطراف العقد ، بفعل  احتكار  أو  ممارسة   نفوذ اقتصادي أو التوفر على خبرة أو معرفة تمكن هذا الطرف من فرض شروطه على الطرف الآخر الذي لا يملك في النهاية سوى رفض التعاقد أو القبول بشروط الطرف القوي ، و هذه هي فكرة التعاقد بين شخصين غير متكافئين التي يكون فيها أحد الأطراف زبونا أو مستهلكا عاديا يستحق نوعا من الحماية 15.
    و عليه  فإن  النظام العام  بمفهومه  التقليدي  أصبح  قاصرا  على  توفير الحماية الازمة للمستهلك ، الأمر  الذي  حدى  بالمشرع  المغربي  إلى  إصدا  قانون خاص بتحديد تدابير لحماية  المستهلك ، و هو القانون  رقم 08.31 ، و  الذي  غير من خلال  مقتضياته  مفهوم النظام  العام  من  مجرد  قواعد  و نصوص يتدخل بواسطتها المشرع ليحقق استقرار نظام المجتمع ، إلى  مفهوم  آخر له  وظيفة اقتصادية و اجتماعية ، و هو ما يعرف بالنظام العام الحمائي الذي يهدف أساسا إلى حماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية  16 .
·       فما هو المفهوم الجديد للنظام العام في إطار قانون حماية المستهلك ؟

هذا ما سنحاول التطرق إليه في المبحث الثاني . 



14عبد الكريم شهبون ، مرجع سابق ، ص 13 و 14.
15عبد القادر العرعاري ، مرجع سابق .
 16عبد الرزاق حباني ، التدخل التشريعي في المجال التعاقدي ، مقال منشور في مجلة الحقوق العدد 14 ، يناير – ماي 2013 ، ص 222.
المبحث الثاني: مفهوم النظام العام في قانون حماية المستهلك:
تعتبر  عقود  الاستهلاك  مجالا  واسعا  لاستغلال المهنيين  لوضعية المستهلكين،  من  خلال الشروط المضمنة في العقد ، و ذلك ما  استرعى حماية  و اهتمام المشرع المغربي ؛ لاعتماد قانون  حماية  المستهلك  الذي  يعفي  من  الاعتماد  على نصوص متفرقة، سواء في القانون الجنائي أو قوانين  المنافسة  وقانون  الالتزامات و العقود ، و في هذا الاطار تم ادراج مفهوم النظام العام  بشكل  مخالف  عن  النظام  العام  التقليدي ، الذي  يقوم على  مبدأ عدم المساس بمقومات الدولة ، فما هو دور النظام العام في خلق توازن ارادة أطراف عقد الاستهلاك؟
المطلب الأول: تقييد مبدأ سلطان الارادة:
يظهر من  خلال بعض مقتضيات قانون 31.08 ، الخاص  بحماية المستهلك مصطلح النظام العام، حيث  تنص المادة 44 على كون أحكام الباب الثاني المنظم للعقود المبرمة عن بعد من النظام العام. نفس الشيء بالنسبة للمادة 52 ، في الباب الثالث  المتعلق  بالبيع خارج المحلات التجارية ، التي تنص  بشكل صريح على أن مقتضيات ذلك الباب من النظام العام.
 و في المادة 65  بشكل  ضمني  تظهر إحالة على النظام العام ، حيث  اعتبرت  أن  الدعوى الناشئة عن العيوب الموجبة للضمان أو عن خلو  المبيع من الصفات  الموعود  بها  ترفع في اجال محددة و لا يسوغ تقصيرها  باتفاق المتعاقدين ، مما  يوضح  اتجاه  المشرع  نحو تقييد إرادة  الأطراف  معا  في  هذه الدعاوى ، و  يدرج شرط الكتابة و حق المستهلك في التراجع و في إعلامه ضمن النظام العام.
و يمكن القول أن  هذا الاتجاه التشريعي صائب ، لأنه  بحمايته  لنشاط  اقتصادي  معين ، أو لأطراف معينة، فهو يحمي النظام العام ، فسمو المصلحة العامة على الخاصة مخالف للحرية التعاقدية، و يفرض على الأفراد تصرفات يجب أن تكون مطابقة للقانون. و يتم بذلك استبدال قوة العقد و  ارادة  الأطراف  بقوة  النظام  العام ، كما أن هذا الأخير وسيلة لإصلاح الحرية التعاقدية  مما   يسمح   للمستهلك  بالرجوع و  ازالة   الشروط التعسفية مثلا ، و ذلك مخالف لمبدأ( العقد شريعة المتعاقدين).
و الملاحظ أيضا   أن النظام العام بمفهومه الاقتصادي الجديد يتميز بالتوجيه و الالزام و ليس بالمنع و التحريم ، كالنظام العام التقليدي.
فقد يتجاوز قانون حماية المستهلك المبادئ العامة لضمان سلامة رضا المستهلك ، نظرا لعدم كفاية القواعد العامة، المتمثلة في تدخل القاضي لتصحيح العقد أو نظرية ( حسن النية )، لأن قانون الالتزامات و العقود و رغم تحديده لطبيعة الاستغلالات ، إلا أنه  يشترط وجود وسائل احتيالية حتى يمكن للمتعاقد إبطال العقد ، لافتراضه وجود  توازن  بين أطراف العقد ، و هذا غير ممكن في عقود الاستهلاك التي يحتاج فيها الطرف الضعيف حماية تشريعية لإرادته.
المطلب الثاني: اضفاء الطابع الجنائي على مخافة النظام العام:
يلاحظ  تخصيص  مشرع  قانون 31.08 القسم التاسع منه لعقوبات زجرية ،  تختلف  شدتها حسب موضوع المخالفة ، و الملاحظ  تغليب  الغرامات  مع   مضاعفتها في حالة العود ، أو بالنسبة للشخص المعنوي.
 و بالطبع الجواب عن السؤال  لماذا كان جزاء مخالفة النظام العام الاقتصادي جزاءا جنائيا؟ سيكون  هو تحقيق  فعالية  أكبر في هذا المجال ، خاصة  و أن  مصلحة  الموردين من جهة و المستهلكين من جهة أخرى  مرتبطة  في  المقام  الأول   باستقرار  السوق و المعاملات ، فالإبطال قد لا  يحقق  تلك  الأهداف كما هو الحال بالنسبة للغرامة أو الحبس، و هذا يعود بنا لفكرة عدم كفاية القواعد التقليدية ، خاصة  و  أن  القاضي  المدني  له  حرية  التوسع في هذا المجال ، عكس  القاضي  الجنائي  الذي  يكتفي  بالتطبيق الحرفي للقانون، مما يحقق التوجيه المخالف لإرادة الأطراف ، و يحقق الحماية في نفس الوقت.
إذن  ما  يحقق  الطابع  الجنائي  هو الفعالية ، لاسيما و أن  البطلان  قد لا يحقق جبر الضرر المناسب للطرف المتضرر ، و تبقى الحرية  غير  المراقبة  و غير المقيدة  بجزاءات  جنائية حرية مطلقة تسمح  للقوي بفرض سيطرته على حساب مصالح الطرف الثاني ، خاصة و أن القانون المدني لا يهتم بعدم وجود توازن بين الأطراف ، فكل عقد هو عادل.
و هناك بعض الملاحظات التي  أخذناها على  هذا القسم  المتعلق  بالعقوبات  الزجرية ؛ في المواد من 173 الى 194:
أولا : و هي أن أغلب العقوبات جاءت على شكل غرامات، في حين أن عقوبة الحبس مقررة استثنائيا في بعض المواد فقط ( 183 و 184).
ثانيا : أن  المشرع  أقر  أحيانا  عقوبات  بسيطة  في  مقابل  تجاوزات  كبيرة  تمس  بحقوق المستهلك ، كما هو الحال  بالمسبة للمادة  (173)  التي تحدد الغرامة من 2000 إلى  5000 درهم ، بخصوص كل الجرائم المتعلقة بالقسم الثاني بخصوص اعلام المستهلك.
ثالثا : تضخيم  العقوبة بالنسبة للشخص المعنوي كما يظهر من المادتين 174 و 180.
رابعا : جاءت المادة  195 باستبعاد  الأحكام  الجنائية في ذلك  القسم ، في حالة وجود تكييف جنائي أشد.
خامسا : الملاحظ أيضا  وجود مغالطة في استعمال مصطلح " مخالفة " ، في حين أن المواد متعلقة بجنح.
سادسا : تم التطرق لمسألة العود بشكل متكرر و كان من الأفضل تخصيص مادة واحدة لها ، كما فعل المشرع الفرنسي في مدونة الاستهلاك الفرنسية 5-213. 17


17 مداخلة الدكتور أمين اعزان ، حول تقييم المقتضيات الجنائية الواردة في القانون 08-31 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك ، في ندوة علمية بمقر محكمة الاستئناف بسطات حول موضوع "قراءة في القانون رقم 08-31 المتعلق بتدابير حماية المستهلك بتاريخ 17 يونيو 2011 ، منشورة بمجلة الدفاع ، العدد السادس – أكتوبر 2011 ، ص 153 و 154.

خــــــــاتمــــــــــة

و ختاما  لا يسعنا  إلا القول أن تغير مفهوم  النظام العام  من  المفهوم  التقليدي  إلى  المفهوم الحديث ، أي  من  دوره  في  تحقيق  استقرار المجتمع ، إلى دور اقتصادي و حمائي  ، كان الهدف منه بالأساس  هو تحقيق نوع من التوازن في العلاقة التعاقدية بين المهني و المستهلك الذي يكون في  مركز  ضعف يستحق حماية خاصة في مواجهة المهني  الذي يكون دائما في مركز قوة ، لهذا اتخذ المشرع من النظام العام أداة لكبح جماح المهنيين بوضع نصوص آمرة لا يمكنهم مخالفتها لإعادة التوازن إلى علاقة دائما ما تكون مختلة من حيث مراكز طرفيها.

لائحة المراجع:
·       عبد القادر العرعاري ، نظرية العقد ، الطبعة الثالثة   2013 ، مطبعة الأمنية الرباط .
·       عبد القادر العرعاري ، وجهة نظر خاصة في مادة القانون المدني المعمق بين الفقه و القضاء ، الطبعة الأولى 2010.
·       مجاهدين خالد ، مفهوم النظام العام في العقد ، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في القانون الخاص ، سنة 2004.
·       المختار بن أحمد العطار ، النظرية العامة للالتزامات في ضوء القانون المغربي.
·       عبد الحق صافي ، القانون المدني ، الجزء الأول ، المصدر الإرادي للالتزامات ، العقد ، الكتاب الأول ، تكوين العقد.
·       عبد المنعم فرج ، نظرية العقد في قوانين البلاد العربية ، دار النهضة العربية .
·       عبد الكريم شهبون ، الشافي في شرح قانون الالتزامات و العقود المغربي ، الكتاب الأول الالتزامات بوجه عام ، الجزء الثاني.
·       عبد الرزاق حباني ، التدخل التشريعي في المجال التعاقدي ، مقال منشور في مجلة الحقوق ، العدد 14 ، يناير – ماي 2013.




[1] http://droit-contentieux.blogspot.com/
[2] الدكتور عبد القادر العرعاري, وجهة نظر خاصة في مادة القانون المدني المعمق بين الفقه و القضاء,الطبعة الاولى 2010 ص 60
[3]  مجاهدين خالد ، مفهوم النظام العام في العقد ، أطروحة لنيل الدكتوراه  في القانون الخاص سنة 2004 .
 المختار بن أحمد العطار ، النظرية العامة للالتزامات في ضوء القانون المغربي ، ص 206. [4]
 مجاهدين خالد ، مفهوم النظام العام في العقد ، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص ، سنة 2004 ، ص 121.[5]
 مجاهدين خالد ، مرجع سابق ، ص 122.[6]
 المختار بن أحمد العطار ، مرجع سابق ، ص 206[7]
 عبد الحق صافي ، القانون المدني ، الجزء الأول ، المصدر الإرادي للالتزامات ، العقد ، الكتاب الأول ، تكوين العقد ، ص 418.[8]

9 عبد الحق صافي ، مرجع سابق ، ص 418 و 419.
10 مجاهدين خالد ، مرجع سابق ، ص 120.




TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *