-->

تأثير الحق في التراجع على التوازنات العقدية


 
مقدمــــة

من المسلم به أن للعقد قوة تلزم أطرافه الذين ارتضوه إذ أن العقد يمثل شريعة المتعاقدين، فلا يجوز أن يستقل احدهم بنقضه أو تعديل أحكامه لأي سبب كان إلا في حدود ما يسمح به الإتفاق أو يقض به القانون
وهذا المبدأ ينطبق على العقود الخاصة دون العامة أي الإدارية التي تستقل السلطة العامة بتعديلها أو إنهائها بدواعي المصلحة العامة مع التعويض، ففي ظل القوة الملزمة للعقد فإن أي من الأطراف لا يستطيع أن يرجع عن العقد فمتى تم إلتقاء الإيجاب والقبول قام العقد، وأن تنفيذه يصبح ملزما ولا رجعة فيه، واستنادا إلى ذلك فإن المستهلك متى أبرم عقدا للحصول على سلعة أو خدمة استهلاكية ما، إنما يلتزم بذلك العقد وبتنفيذه أيا كانت الظروف، حتى ولو تبين أن تلك السلع لا تفي بالغرض الذي يسعى إليه ولتنفيذه أصلا، إلا أن ما تعرض له البشرية من تطور وتعقيد وظهور المخاطر وكثرتها، واختلال ميزان القوة في العلاقة التي تقوم بين المنتج أو البائع أو الموزع المحترف من جهة وبين المستهلك من جهة أخرى، فإنه من غير الجائز أن يترك مجالا واسعا لتطبيق مبدأ العقد شريعة المتعاقدين على اعتبار أنه كاف لتحقيق مصالح الأطراف، إذ أن المستهلك كفرد لا تتوفر له القدرات الفنية والقانونية والوقت الكافي للتروي والتفكير في جميع ما يبرمه من صفقات للإستهلاك يحتاج لحماية خاصة في هذا الشأن عن طريق التخفيف من غلواء مبدأ القوة الملزمة للعقد وبالتالي منحه خيارات عديدة في الرجوع عن العقود التي يبرمها في عجلة من أمره، أو لأنه وقع ضحية الإغراء الدعائي المبالغ فجاءت اتفاقية البيع مفتقرة إلى الإختيار السليم، لذلك فقد أفرد المشرع للمستهلك حق الخيار بالرجوع عن العقد وذلك في قانون حماية المستهلك ليعيد التوازن لصالح الطرف الضعيف على حساب الطرف القوي واعتمادا على هذه الاعتبارات والتي تبدو كافية لإلقاء الضوء على مفهوم هذا الحق أي حق الرجوع، سنقوم بطرح الإشكالية التالية:  هل بمجئ حق التراجع تم هضم مبدأ القوة الملزمة للعقد؟
وهذا ما يجرنا إلى إشكاليات أخرى من قبيل ذلك:
كيف حاول المشرع الموازنة بين المنظومة  التقليدية وقانون 31.08 للحفاظ على مبدأ سلطان الإرادة؟
وما مدى إلزامية المقتضيات أو الالتزامات الواردة في ق.ل.ع أمام حق التراجع لتحقيق التوازنات العقدية؟
وكيف يمكن تحقيق التوازن بين القوة الملزمة للعقد وحق التراجع؟
وهل يمكن لنا بالتالي الحديث عن القوة الملزمة للعقد أو عن استقرار المعاملات أو التوازن العقدي ضمن حق التراجع في قانون 31.08؟
وعليه سوف نقسم العرض وفق التصميم التالي:

المبحث الأول: حق التراجع في إطار المنظومة التقليدية والحديثة
المطلب الأول: حق التراجع في إطار القواعد العامة
المطلب الثاني: حق التراجع في إطار قانون 08.31

المبحث الثاني: انعكاسات الحق في التراجع على العقد وعلى الأوضاع القانونية  لطرفيه
المطلب الأول: مبررات استعمال الحق في التراجع والآثار المترتبة عليه
المطلب الثاني: استثناءات ممارسة حق الرجوع وضمانات عدم تعسف المستهلك


المبحث الأول: حق التراجع في إطار المنظومة التقليدية والحديثة

لقد بدت رغبة كل من المشرع والقضاء ملحة في منح المذعن حماية خاصة اتجاه سلبيات بعض عقود الإذعان المتضمنة لشروط تعسفية، فبالإضافة إلى ما ابتكره من وسائل لتبصير المتعاقد الضعيف بشروط العقد وخباياه الظاهرة والباطنة منحاه فرصة للتفكير خروجا عن القاعدة العامة التي بمقتضاها ينعقد العقد بمجرد التراضي على العناصر الأساسية وعلى باقي الشروط المشروعة الأساسية ولا يمكن الرجوع عنه بتراضي الطرفين احتراما أو تقديسا لمبدأ القوة الملزمة للعقد –المطلب الأول- لكن لا يجب أن نتناسى أن حق العدول عن العقد كان منظما في ق.ل.ع في شكل بيع الخيار الذي استقى أصوله من الفقه الإسلامي إلى جانب المفهوم الجديد لهذا المصطلح نجد أن حق التراجع الذي أصبح منظما بكيفية قانونية  صرفة في قانون 08.31 القاضي بتحديد التدابير لحماية المستهلك والذي يعتبر طرفا ضعيفا في العقود الاستهلاكية –المطلب الثاني-
المطلب الأول: حق التراجع في إطار القواعد العامة
لم تكن النظرية التقليدية للعقد منصفة عندما اعتبرت أن العقد عادل طالما أن إبرامه قد تم بتراضي الطرفين المتعاقدين على العناصر الأساسية للإلتزام وباقي الشروط المشروطة الأخرى التي يعتبرها الطرفان أساسية حسبما جاء في الفصل 230[1] من ق.ل.ع "الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون"
فمن خلال هذا النص يتبين لنا أن المشرع المغربي قد جعل الإرادة شريعة للمتعاقدين وفي حالة الاتفاق بين أكثر من إرادة فإنما تصبح بمثابة القانون المنظم لهذه العلاقة العقدية بحيث لا يمكن هدم ما بنته هاتين الإرادتين إلا باتفاق مضاد أو في الحالات التي يقرر فيها القانون مثل هذا الهدم
وهذا المبدأ المنصوص عليه في الفصل 230 ق.ل.ع يرتبط في الأصل بمبدأين آخرين هما مبدأ القوة الملزمة للعقد ومبدأ نسبية آثار العقد إذ أن هذه المبادئ الثلاثة تشكل الأعمدة التي تقوم عليها نظرية الالتزام المنصوص عليها في القانون المدني المغربي غير أنه أمام صلابة الأسس التي يقوم عليها مبدأ سلطان الإرادة فإن معظم التشريعات المعاصرة أصبحت تميل إلى التلطيف من حدة سلطان الإرادة وذلك بهدف تحقيق عنصر التوازن بين الأداءات التي يتحمل بها أطراف العقد خصوصا في الحالات التي يثبت فيها أن إرادة أحد الأطراف لم تكن حرة أثناء إبرام العقد وان قبول شروط العقد كان تحت ضغط اقتصادي أو ضرورة واقعية دفعت بالطرف الضعيف في العقد إلى الرضوخ لشروط الطرف القوي وذلك كيفما كانت الوسائل المستعملة لتحقيق هذا الغرض إلى جانب ذلك نجد أن مبدأ سلطان الإرادة [2]أخذ مكانة مهمة أيضا في التقنينات المدنية التي ظهرت إبان القرنين 18و19 بحيث نصت المادة 1134 من القانون المدني الفرنسي التي أقرت هذا المبدأ عندما اعتبرت الاتفاقات المنشاة بكيفية مشروعة بمثابة القانون بالنسبة للأطراف المنشئة له بحيث لا يمكن مراجعتها إلا باتفاق الجميع أو في الحالات المرخصة من طرف القانون فقد تضمنت هذه المادة مبدأ قانوني مهم كما سبق الذكر أن العقد "شريعة المتعاقدين" وأن قواعد العدل والإنصاف تقتضي عدم تحلل أحد الأطراف من الرابطة العقدية إلا إذا وافق الطرف الآخر على ذلك أو كان القانون هو الذي يقر ذلك وهذه القاعدة هي التي يطلق عليها اسم القوة الملزمة للعقد.
لكن هذا لا يعني بأن هذا القانون لم يتضمن بعض القيود كإبطال أو بطلان العقد كما هو الحال بالنسبة للإبطال المبني على حالة المرض والحالات الأخرى المشابهة (ف 54) ق.ل.ع والغبن المقرون بالتدليس (ف55) أو الذي يكون الطرف المغبون فيه قاصرا أو ناقص الأهلية وبصفة عامة عيوب الرضى الموجبة للإبطال والحقيقة أن النظرية التقليدية لعيوب الرضى في العقود غير كافية لتحقيق التوازن بين التزامات المتعاقدين خاصة إذا كانت كفة أحد الأطراف راجحة بحكم الاحتكار القانوني أو الفعلي
إلى جانب ذلك يجب ألا نغفل أن حق التراجع الذي يجد سنده في إطار المنظومة التقليدية تحت سقف مبدأ سلطان الإرادة وكذا منبع الفقه الإسلامي الذي أفرغ  صبيبه والمتمثل في بيع الخيار داخل هذه المنظومة والذي تم إخراجه في قالب يتناول جملة من صور ممارسة الحق في الرجوع في التعاقد
وقبل الحديث عن بيع الخيار في ق.ل.ع سنعود إلى أصوله الفقهية، والمتجسدة في الفقه الإسلامي الذي عبر عنه بعض الفقهاء أن الخيار هو سلطة أحد المتعاقدين بالانفراد بنقض العقد والتحلل منه دون توقف ذلك على إرادة الطرف الآخر.
كما عرفه البعض الآخر على أنه أمر عارض محقق[3] الوقوع يرد على العقود اللازمة فيفقدها اللزوم أثناء مدة الخيار به حيث يستطيع أحد المتعاقدين أو كلاهما فسخ العقد أو إجازته بإراداته المنفردة وقد ذهب الفقه الفرنسي أيضا لتعريفه على أنه بمثابة الإعلان عن إرادة مضادة يعتزم من خلاله المتعاقد بالرجوع عن إرادته وسحبها واعتبارها كأن لم تكن وذلك بهدف تجريدها من أي أثر كان لها في الماضي أو سيكون لها في المستقبل ولقد تناولت معظم المؤلفات في الفقه الإسلامي القديم والحديث بصورة موسعة جدا نظريات الخيار، وسوف نتعرض لنوعين من الخيارات في الفقه الإسلامي بصورة موجزة تتمثل في خيار الشرط وخيار عدم المطابقة
أولا: خيار الشرط: [4]هو إضافة الشئ إلى سببه أي الخيار الذي سببه شرط مضمن في العقد أو ملحقه كأن يكون شرط في البيع للبائع أو المشتري أولهما معا أو لأجنبي الخيار في فسخ العقد أو إمضائه وهو نوع من أنواع الخيارت الثابتة في العقود إلى جانب خيار الرؤية وخيار العيب وغيرها، إلا أن خيار الشرط يجد أساسه في العقد
ويستخلص مما سبق أن خيار الشرط صحيح بالنسبة لطرفي العقد البائع أو المشتري أو كل منهما معا داخل أجل معين لطبيعة المبيع كالشهر في الأصول أو الدور أو الدكاكين وبالأيام القليلة نحو 3 أيام إذا كان المبيع الدواب أو الثوب
ثانيا: خيار عدم المطابقة:[5] يتمثل في حق المشتري إزاء عدم مطابقة المبيع الأوصاف المشترطة في العقد في الاختيار بين إمضاء العقد أو فسخه وتجدر التفرقة في هذا الصدد بين صورتي عدم المطابقة الوصفية والوظيفية من جانب وصورة عدم المطابقة الكمية من جانب آخر، وقد تناول الفقه أحكام الصورة الأولى فيما يسمى خيار فوات الوصف المرغوب، والصورة الثانية فيما يسمى بخيار اختلاف المقدار
هذا فيما يخص خيار الشرط وخيار عدم المطابقة في الفقه الإسلامي ففيما يخص بيع الخيار في ق.ل.ع فقد أفرد له المشرع في الفرع الثاني من الباب الثاني من الكتاب للبيع المعلق على شرط واقف لمصلحة أحد المتعاقدين –بيع الخيار-
وقد نص الفصل 601 ق.ل.ع [6]"أنه يسوغ أن يشترط....."هذا النوع من البيوع المعمول به ليس فقط في الدول التي يسري الفقه الإسلامي على معاملاتها، إذ أخذت بهذا النوع من البيوع فرنسا كذلك تحت اصطلاح البيع بشرط la vente à condition وان كان حق الرجوع موكولا للمشتري وحده دون البائع وقد اعتبر قانون الالتزامات والعقود بيع الخيار من البيوع الموصوفة عندما نص الفصل 602 "علق أنه بيع معلق على شرط واقف هدفه إتاحة الفرصة لأحد المتعاقدين الرجوع في الالتزام داخل أجل معين سواء كان مشتريا أو بائعا
إن بيع الخيار من البيوع الاستثنائية لما يتمتع به أحد المتعاقدين من حق في العدول عن الالتزام بعد قيامه وذلك بالموازنة بين ما قد يجنيه من نفع وما قد يلحق به من ضرورة وقوام هذا العقد أن المشرع منح الطرف المذعن على الخصوص، رخصة السحب faculté de rétractation  أو إعادة النظر في الالتزام الذي يرتبط به مسبقا داخل مدة معينة، وقد أوجب الفصل 604 من ق.ل.ع على المتعاقد الذي احتفظ لنفسه لحق الخيار في أن يصرح عن قصده داخل المواعيد التالية:
1)  بالنسبة للعقارات (الحضرية والفلاحية) خلال مدة 60 يوما تبدأ من تاريخ العقد
2)  بالنسبة إلى الحيوانات الداجنة والأشياء المنقولة خلال مدة 5 أيام، على أنه يمكن للمتعاقدين تقصير هذا الأجل دون إمكانية تمديده لأجل أطول تحت طائلة البطلان
وقد قضت استئنافية الرباط انه لا يشكل بيع الخيار الذي يخضع لمقتضيات الفصل 604 من ق.ل.ع الذي يتحدد في اجل الخيار في شهرين إعطاء مالك البناء وكالة لسمسار لإيجاد مشتري لبنائه لغاية تاريخ محدد يتجاوز أجل شهرين ابتداء من تاريخ الوكالة بل هو يشكل وكالة تخضع لأحكام الفصل 942 ق.ل.ع[7]
وعليه، فإن خيار الرجوع في العقد لا يفترض وإنما على من يرغب في استعماله أن يصرح بذلك صراحة في العقد ذاته أو في ملحقاته وقد قضى المجلس الأعلى بان بيع الخيار لا يفترض بل يجب التنصيص عليه في عقد البيع أو في عقد لاحق، وبالتالي عندما يكون عقد البيع لا يتضمن أية إشارة على بيع الخيار، فإنه لا يكون هناك مجال لإعمال المقتضيات المتعلقة ببيع الخيار[8]
  
المطلب الثاني: حق التراجع في إطار قانون 08.31
نجد أن المشرع قد نظم حق التراجع في القانون 08.31 القاضي بتحديد التدابير لحماية المستهلك الصادر بتاريخ 18 فبراير 2011 إذ تضمن هذا القانون العديد من التدابير الحمائية هدفها تعزيز الحقوق الأساسية للمستهلك المتعاقد على المنتوجات والسلع والخدمات، وبذلك فحق التراجع يعتبر من أهم التدابير المنصوص عليها بجانب حقوق أخرى ، ونجد أن المشرع قد نظم هذا الحق في إطار ثلاث أنماط من العقود وهي: العقود المبرمة عن بعد، والبيع خارج المحلات التجارية والقروض الاستهلاكية
وبالرجوع إلى المادة 36 [9]من قانون 08.31 نجد أن المشرع قد أفرد مدة 7 أيام لممارسة المستهلك حق الرجوع وذلك كمدة معقولة للتفكير في العقد الذي ارتضاه على عجل خصوصا عندما يتبين له أن السلعة أو الخدمة لم تكن مطابقة لما كان يتوقعه، إضافة إلى تخصيص هذه المدة لتفحص الشئ المبيع بشكل جيد وللتشاور بشأن العملية التي أجراها مع أفراد أسرت وكذلك الحال مع أحد المهنيين المختصين لأخذ رأيه عن حقيقة المزايا التي يدعي المورد بأن الشئ المبيع يتوفر عليها
وبالنسبة للمستفيد من هذه الرخصة هنا فهو دائما كل من مستهلك السلع والخدمات  وبالنسبة لعقود البيع فالأجل ينطلق إبتداءا من تسليم السلع أما بالنسبة لعقود تقديم الخدمات فينطلق الأجل إبتداءا من تاريخ قبول العرض
وبالنسبة للمدة المقررة للتراجع فنجد أن المشرع قد رفع المدة إلى 30 يوما وذلك في حالة عدم قيام المورد بالتزامه بالتأكيد الكتابي للمعلومات المنصوص عليها في المواد 29و32 بصريح المادة 36 من القانون المذكور
وللإشارة فإن ممارسة حق التراجع يتم بإرادة المستهلك المنفردة ودون الحاجة إلى اللجوء للقضاء أو الحصول على موافقة الطرف الآخر، كما أن هذا الحق يعتبر من النظام العام لا يجوز الاتفاق على خلافه ولا يجوز للمستهلك التنازل عنه مستقبلا كما يجوز بأي شكل من الأشكال تقييده
لذلك فإنه يجب أن يتضمن العقد استمارة قابلة للإقتطاع يكون الغرض منها التسهيل على المستهلك ممارسة حق التراجع
ونجد من جهة أخرى أن المشرع قد أحاط حق التراجع بضمانات عديدة إذ نجد في إطار المادة 37 من قانون 08.31 أنه قد ألزم المورد بإرجاع المبالغ المدفوعة كاملة من طرف المستهلك وحدد أجل 15 يوما لذلك الموالية للتاريخ الذي تمت فيه ممارسة الحق المذكور وبعد انصرام الأجل المذكور تترتب بقوة القانون على المبلغ المستحق فوائد بالسعر القانوني المعمول به وفي حالة رفض المورد إرجاع المبلغ فإنه وحسب المادة 178 من نفس القانون فإن المورد يعاقب بغرامة من 1200 الى50.000 درهم والتي تضاعف في حالة العود خلال 5 سنوات الموالية لصدور حكم حائز لقوة الشئ المقضي به في أفعال مماثلة.
كما أن الحق في التراجع لا يسمح مبدئيا للمستهلك باستبدال منتوج ما إلا في الحالة الخاصة الواردة في المادة 41: إذا كانت هذه الإمكانية معلن عنها قبل إبرام العقد أو منصوص عليها في العقد بصورة واضحة ومفهومة
والغاية من قيام المشرع بإدراج الحق في التراجع في العقود الثلاثة السالف ذكرها تتمثل في إعتبارات كثيرة وذلك حماية لرضاء المستهلك الحقيقي وضمان إرادة واعية ومستنيرة وبإعطاء المستهلك فرصة كافية للتروي والتأمل في العقد الذي أبرمه متسرعا وبدون فكرة واعية وكافية عن المبيع[10]، وذلك في ظل تطور أنماط التعاقدات عن طريق الاتصالات الحديثة والتكنولوجية[11] وفي ظل البيوعات التي تتم بالاعتماد فقط على الصور والأوصاف التي يمررها البائع- العقود المبرمة عن بعد- إذ يجد المستهلك نفسه أمام منتوج لا يتلاءم مع ما كان ينتظره إضافة إلى إمكانية تواجد المستهلك أمام بائع متمرس وخبير  في مجال البيوعات المنزلية- البيع خارج المحلات التجارية- وبذلك فقد يعمد إلى طلب السلعة دون أن يفكر، لذلك فإن مهلة الرجوع تبدأ من يوم تقديم الطلبية أو الالتزام بالشراء (م49) كما أن المستهلك قد يجد نفسه تحت وطأة الحاجة إلى الإقتراض لتلبية رغباته المتنوعة –القروض الاستهلاكية- أمام عروض عديدة ومغرية من مؤسسات التمويل والبنوك والتي قد يتعاقد مع إحداها ليتبين له في الأخير أنه قد تسرع في قراره هذا وتورط في دفع مبالغ قد تستمر لمدة من زمن حياته، ولهذا فإن المشرع حسنا فعل عندما نص على حق التراجع في إطار هذه العقود بصفة حصرية.

المبحث الثاني: انعكاسات الحق في التراجع على العقد و على  الأوضاع القانونية  لطرفيه
المطلب الأول: مبررات استعمال الحق في التراجع والآثار المترتبة عليه
*الفقرة الأولى: مبررات استعمال الحق في التراجع
الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة لمنشئيها فلا يجوز فسخها ولا التحلل منها إلا بالتراضي أو التقاضي أو بحكم القانون وهو ما اتفقت عليه كل التشريعات كالمادة 1134 من القانون المدني الفرنسي والمادة 147 من القانون المدني المصري و المادة 230 من قانون الالتزامات و العقود المغربي فالأطراف المتعاقدة ملزمة بتنفيذ التزاماتهم التعاقدية بحسن نية المادة 230 ق.ل.ع المغربي إلا أن لهذه القاعدة استثناءات عديدة منها الحق في التراجع الذي يعتبر خروجا عن القوة الملزمة للعقد والذي خول للمستهلك الحق في العدول والتراجع عن إبرام العقد أو إتمامه داخل مدة محددة  بإرادة منفردة دون حاجة لتبرير موقفه للبائع ودون تحمل أي تعويض أو تبعات
ولحق التراجع أهمية تبرر إقراره من طرف كل التشريعات بما فيها المشرع المغربي وتتمثل هده الأهمية :
*حماية الطرف الضعيف في العقود الاستهلاكية والمتمثل في المستهلك وإعادة التوازن المطلوب بين المراكز القانونية والاقتصادية لكل من المورد والمستهلك فقلة خبرة المستهلك وتعاقده خارج مجال اختصاصه والضغط الاقتصادي وحاجته لتلك السلعة أو الخدمة قد تدفعه إلى التعاقد دون تفكير وبصورة متسرعة الشيء الذي قد يضر بمصالحة ويدفعه إلى الندم فكان الأولى والأصلح إعطاء المستهلك فرصة لتفكير والتراجع وتحديد موقفه
*كما أن إقرار حق التراجع في العقود المبرمة عن البعد أو تلك التي تتم خارج المحلات التجارية يعطي للمستهلك فرصة للإطلاع على السلعة والتأكد من جودتها ومدى احتياجه لها
*وحق التراجع هو حماية حقيقية لرضا المستهلك كما يضمن وجود إرادة حرة ومستنيرة وواضحة فإرادة المستهلك هنا لا يشوبها أي عيب من عيوب الرضا كالغلط أو التدليس أو الإكراه أو الغبن الفاحش كل ما هنالك أن الإغراء الممارس عليه من طرف المحترف قد يؤدي إلى تغيب إرادة المستهلك ولو بصورة غير مباشرة ما يدفعه إلى اقتناء سلع قد لا يحتاجها والندم بعد ذلك فإقرار حق التراجع هنا يساوي بين إرادتي كل من المستهلك والمورد ويعطي للطرف الضعيف فرصة للتفكير والتروي والتأكد مما إذا كان يرغب في التعاقد أم لا
*كما أن استعمال الموردين والمهنيين لوسائل التكنولوجيا المتطورة في إبرام العقود كاستعمال الانترنت الفاكس و غيرها قد يجعل من الصعب على المستهلك الإلمام بكل جوانب العملية التعاقدية و تكوين فكرة واضحة وسليمة على السلعة أو الخدمة المتعاقد عليها فحق التراجع الذي يلزم البائع بتسليم السلعة للمستهلك خلال فترة التفكير قد يسمح له بالإطلاع على السلعة وتحديد موقفه بكل وضوح
*ويحمي الحق في التراجع المستهلك من التأثير السلبي للوسائل الإشهارية والتسويقية التي يلجا إليها الموردون لتسويق وترويج منتجاتهم الأمر الذي قد يؤثر سلبا على إرادة المستهلك ويدفعه إلى التعاقد دون تفكير
وعلى العموم إن عجز القواعد العامة على حل بعض الصعوبات والإشكاليات[12] التي يثيرها العقود الاستهلاكية و قصورها في حماية الطرف الضعيف هو ما دفع جل التشريعات الحديثة إلى تبني مبدأ الحق في التراجع فقد نضمه المشرع الفرنسي في المادة 126 من قانون الاستهلاك بالنسبة للعقود المبرمة عن بعد والمادة 121 من نفس القانون بالنسبة للبيع خارج المحلات التجارية وحدد مدته في 7 أيام أما التوجيهية الأوروبية عدد 7/97 في المادة 6 من تقنين الاستهلاك 1997 أنه يجوز للمستهلك إرجاع المنتوج للبائع داخل مدة 7 أيام أما المشرع التونسي فقد تطرق لهدا الحق في المادة 30من قانون 9 غشت 2000 المتعلق بحماية المستهلك وحدد مدته في 10 أيام أما مشروع قانون التجارة المصري فقد نص على هدا الحق في المادة 20 وحدد مدته في 15 يوما
على العموم إن ضعف خبرة المستهلك الذي يقابله احتراف المورد واستعماله لكل وسائل الضغط والإغراء لإقناع المستهلك للتعاقد دفع إلى إقرار حق المستهلك في الرجوع عن العقد الذي أبرمه متسرعا ولو لم يكن رضاءه معيبا بأي عيب من عيوب الرضا
*الفقرة الثانية: الآثار المترتبة على استعمال حق الرجوع 
*أول ما يمكن قوله أن ممارسة حق الرجوع يجعل العقد غير مستقر طيلة مدة التفكير إذا مارس المستهلك حقه في التراجع ترتب على ذلك عودة الأمور إلى ما كانت عله سابقا دون أي جزاءات أو تعويضات أما إذا انتهت مدة التراجع ولم يمارس المستهلك هدا الحق يصبح العقد نهائيا و مكتملا منتجا لأثاره القانونية و ملزما لطرفيه .
*المستهلك هو من له الحق في ممارسة هدا الحق بإرادة منفردة دون الحاجة إلى اللجوء إلى القضاء أو موافقة البائع ودون إعطاء تبرير لموقفه أو أداء أي تعويض فهو حق مجاني فقد نصت المادة 6 من التوجيهية الأوروبية 1997 إن للمستهلك حق الرجوع في طلبه دون أن يتحمل أي جزاءات ودون أن يلتزم بأي تعليل وقد عبرت عن ذلك الفقرة الأولى من هده المادة sans pénalité et sans indication de motif وهو ما ذهبت إليه المادة 121 من مدونة الاستهلاك الفرنسية.
فالمستهلك لا يتحمل إلا المصاريف المباشرة المتعلقة بإرسال السلعة عند الاقتضاء[13].
وقد ذهب القضاء الفرنسي إلى ابعد من دلك حينما منع البائع في إحدى قراراته من أن يطالب المشتري بمصاريف تجربة وتعديل المنتوج الذي تم إرجاعه [14]
*ويلتزم البائع في حالة ممارسة حق الرجوع برد الثمن خلال مدة معينة و إلا ترتبت عليه فوائد لصالح المستهلك  كما يلتزم المستهلك في المقابل برد السلعة كما سلمت له وإذا قام المستهلك باستعمال الساعة خلال فترة التفكير اعتبر ذلك موافقة ضمنية من طرفه على التعاقد. لا يحق للبائع التراجع عن إيجابه فهدا الحق مكفول للمستهلك كما لا يحق له إجبار المستهلك على تنفيذ التزاماته قبل انتهاء مدة التراجع فقد جاء في المادة 50 من القانون 08-31 الخاص بحماية المستهلك انه "لا يجوز لأي كان قبل انصرم اجل التراجع المنصوص عليها في المادة 49 أن يطالب المستهلك أو يحصل منه بصفة مباشرة أو غير مباشرة بأي وجه من الوجوه أو بأي شكل من الأشكال على أي مقابل أو أي التزام أو تقديم خدمة كيفما كانت طبيعتها  في حين لا يمنع هدا حق البائع من تنفيذ بعض التزاماته فهو ملزم بتسليم السلعة للمستهلك وتمكينه منها".
  وبما أن حق التراجع من النظام العام فلا يمكن التنازل عنه أو إسقاطه أو الإنقاص من مدته إلا أن هذا لا يمنع الأطراف من الاتفاق على زيادة هده المدة لصالح المستهلك .
المطلب الثاني: استثناءات ممارسة حق الرجوع وضمانات عدم تعسف المستهلك
بالرغم من أهمية حق الرجوع في إعادة التوازن للعقد وتحقيق المساواة بين طرفي العقد وتصحيح المراكز القانونية والاقتصادية لكل من المورد والمستهلك إلا أن هذا الأخير-أي المستهلك - قد يتعسف في استعماله لحق الرجوع الشيء الذي قد يؤدي إلى الإضرار بمصالح المورد كأن يقوم باستعمال الشيء المبيع مما قد يؤدي إلى إنقاص قيمته التجارية أو قد يتجاوز المستهلك حدود الرؤية أو يقوم بنسخ البرامج والتسجيلات الصوتية التي تتضمنها الأقراص المدمجة أو أن تعمد إتلاف البضائع أو يستعمل هدا الحق فقط للإضرار بمصالح المورد.
فحماية لمصالح البائع و تحقيقا للمساواة تبنت جل التشريعات التي أخذت بمبدأ الحق في التراجع مجموعة من الأحكام للحد من تعسف المستهلك كإلزام المستهلك بأداء مصاريف إرجاع السلعة كالقانون الفرنسي والتوجيهية الأوروبية أو إلزامه بأداء تعويض عن استعماله للبضائع التي قرر ردها كما هو الحال بالنسبة للقانون الألماني أو منع إرجاع السلع التي تم استعمالها قبل انتهاء مدة الرجوع أو تلك التي تعيبت أثناء حيازتها من طرف المستهلك كما نصت غلى ذلك المادة 55 من القانون اللبناني[15] لحماية المستهلك و بشكل عام اتفقت كل التشريعات بما فيها التوجيهية الأوروبية على أن حق التراجع لا يمكن ممارسته في الحالات التالية :
العقود التي بدأ بتنفيذها بطلب من المستهلك
العقود التي يحدد ثمنها بناءا على سعر السوق المالي
بيع الجرائد والمجلات والبضائع المصممة حسب احتياجات المستهلك
البضائع التي تتلف بإرسالها بالبريد
خدمات المراهنة وأوراق اليانصيب
التسجيلات السمعية والبصرية أو برامج المعلومات
أما المشرع المغربي فقد نص في المادة 38 من قانون 08-31 على هذه الاستثناءات التي لا يمكن ممارسة حق التراجع في إطارها إلا إذا اتفق الطرفان على خلاف دلك وهي: 
الخدمات التي شرع في تنفيذها بموافقة المستهلك قبل انتهاء أجل سبعة أيام كاملة،
التزويد بالمنتجات أو السلع أو الخدمات التي يكون ثمنها أو تعريفتها رهينا بتقلبات الأسعار السوق ،
التزويد بالسلع المصنوعة حسب مواصفات المستهلك أو المعدة له خصيصا أو التي لا يمكن بحكم طبيعتها إعادة إرسالها أو تكون معرضة للفساد أو سرعة التلف
التزويد بتسجيلات سمعية المصنوعة حسب مواصفات المستهلك أو المعدة له خصيصا أو التي لا يمكن بحكم طبيعتها إعادة إرسالها أو تكون معرضة للفساد أو سرعة التلف
التزويد بتسجيلات سمعية أو بصرية أو برامج معلوماتية عندما يطلع عليها المستهلك،
التزويد بالجرائد أو الدوريات أو الجرائد.

خــــــــــاتمة

بالرغم من أهمية الحق في التراجع إلا انه يواجه العديدة من الانتقادات فهو يمس القوة الملزمة للعقد وبالوظيفة الاجتماعية له كما أنه يمس استقرار المعاملات وبثبات العقد كما أنه يغلب مصلحة المستهلك على مصلحة المورد و بالرغم من كل هذا فإن حق التراجع من أهم الحقوق التي جاء بها قانون حماية المستهلك إلا أن تفعيل هدا المبدأ يتطلب توعية المستهلك المغربي بحقوقه وتفعيل دور جمعيات حماية المستهلكين حتى تتمكن من الدفاع عن حقوق المستهلك وذلك بتخصيص ميزانية خاصة بها




 كتاب نظرية العقد : لأستاذنا د.عبد القادر العرعاري[1]
د.حسن عبد الباسط جميعي "اثر عدم التكافؤ بين المتعاقدين على شروط العقد" ص 44[2]
3- دابرا هيم الدسوقي أبو الليل- الرجوع في التعاقد كوسيلة لحماية الرضا، دراسة العقد غير اللازم في الشريعة الإسلامية، وتطبيقاته في القانون الوضعي، ص: 14[3]
[4] - MIRABAIL (solang) la rétrataction en droit privé français L.G.D.J 1997.p 127-128
 أحكام العقود في الشريعة الإسلامية "دار مصر للطباعة" ص 107 [5]
 د. محمد شيلح "العقود المسماة" في قانون الالتزامات والعقود 'عقد البيع" الجزء الاول في تحديد عقد البيع وتكوينه السنة الجامعية 1989/1990 ص 185 ومايليها.[6]
 محكمة الاستئناف الرباط 26 مارس 1952 مجلة المحاكم المغربية 10 أكتوبر 1952 [7]
 قرار رقم 7 بتاريخ 6 يناير 1982 قضاء المجلس الاعلى عدد 30 سنة 1982 [8]
         
            [9] تنص المادة 36 من القانون على ما يلي "للمستهلك اجل: سبعة أيام لممارسة حقه في التراجع،
            ثلاثين يوما لممارسة حقه ما لم يف المورد بالتزامه بالتأكيد الكتابي للمعلومات المنصوص عليها في المادتين 29 و32
        وذلك دون حاجة إلى تبرير ذلك أو دفع غرامة باستثناء مصاريف الإرجاع إن اقتضى الحال ذلك
 د.أبو بكر مهم "قراءة في المقتضيات المتعلقة بالبيع عن بعد"[10]
-        د.عبد الكريم عباد: "حماية المستهلك في عقد التجارة الالكترونية-[11]
 "حماية المستهلك دراسة مقارنة" للدكتور عبد المنعم موسى إبراهيم" [12]
[13] les seuls frais qui peuvent êtres imputes au consommateurs en raison de l’exercice de son droit de rétractation sont les frais directes de renvoi des marchandises
[14] cassation civl 23juin 1993 bulltin civ I n°232 p 160
  الحماية المدنية للمستهلك في التجارة الالكترونية "دراسة مقارنة" القاضي الدكتور – موفق حماد عبد-[15]
TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *