-->

التحكيم والوساطة

مقدمة

أضحت الوسائل البديلة لحل المنازعات تعرف اهتماما متزايدا على صعيد مختلف الأنظمة القانونية والقضائية ، لما توفره هذه الوسائل من مرونة وسرعة في البث وما تضمنه من مشاركة الأطراف في إيجاد حلول لمنازعتهم ، هذا فضلا عن قلة كلفتها .

ويعد التحكيم والوساطة أحد أشهر هذه الوسائل ، وقد عرف التحكيم كمؤسسة اختيارية لحل المنازعات منذ عهود قديمة إذ كان معتمدا في مجتمعات مصر القديمة وبابل وأشور وعند اليونانيين والفينيقيين ، أما العرب فقد اهتموا بالتحكيم في وقت مبكر مع ظهور مبادئ الحضارة العربية في شبه الجزيرة وكذلك الإسلام أقر شرعية التحكيم لحل المنازعات .

أما في المغرب فقد اعتمد ت القبائل الأمازيغية التحكيم لفض المنازعات الناشبة بينها منذ فجر التاريخ.                                                                                                      
ويطلق على التحكيم تسميات فرعية حسب طبيعة المنازعة التي يراد فضها عن طريقه ، فإذا كانت المادة تجارية سمي التحكيم تجاريا وإذا كانت مدنية سمي التحكيم مدنيا ، أما إذا كانت المادة إدارية سمي التحكيم إداريا .                                                   

غير أن التحكيم في المواد الإدارية هو الذي يطرح إشكالا خاصة بالنسبة للأنظمة التي تنهج نظام القضاء الإداري، حيث ظلت في بداية الأمر ترفض التحكيم في منازعات العقود الإدارية بل تمنعها فقها وقضاء وتشريعا .                                                           

لكن مع تطور الأوضاع والظروف الاقتصادية تغير موقف بعض الأنظمة وأنظمة أخرى ظل موقفها ثابتا مع استثناءات . وقد نظم المشرع المغربي التحكيم كبديل للقضاء الرسمي ضمن أحكام قانون المسطرة المدنية لسنة 1913 ، واحتفظت به المسطرة المدنية لسنة 1974 ، كما جاء قانون 05-04 الذي يقضي بنسخ الباب 8 من القسم 5 من قانون المسطرة المدنية .                                                                                         
إلا أن هذا النظام عرف ثغرات كثيرة وذلك لعدم كفايته لأنه لا يغطي جميع المسائل المرتبطة بالتحكيم ولعدم مواكبته للمستجدات الدولية التي يعرفها هذا الميدان .
              
فهل كانت هذه القوانين المنظمة للتحكيم كافية لجعل المغرب يعتمد على هذه الوسيلة في حل المنازعات الإدارية بالشكل الذي اعتمدته دول جد متطورة في هذا المجال كمصر مثلا أم أن هذه القوانين لم تفعل التحكيم وجعلت دوره محدودا في حل المنازعات الإدارية كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا.
وهذا مسيتم التطرق اليه من خلال اتباع المنهجية التالية:













المبحث الأول: الإطار القانوني للجوء الدولة وأشخاص القانون العام إلى التحكيم والوساطة   
                   (التشريعات المقارنة)                                                         

المطلب الأول: الفرق بين التحكيم والوساطة الاتفاقية.

المطلب الثاني: موقف التشريعات المقارنة من لجوء أشخاص القانون العام إلى
                   التحكيم.      



المبحث الثاني: التحكيم في منازعات الأموال العامة بالمغرب.                                 

    المطلب الأول: التحكيم في منازعات العقود الإدارية قبل صدور قانون 05-08.                     

   المطلب الثاني: التحكيم بعد صدور قانون 05-08.       









المبحث الأول : الإطار القانوني للجوء الدولة وأشخاص القانون العام إلى التحكيم والوساطة (التشريعات المقارنة)

يعد التحكيم والوساطة أسلوبا بديلا عن القضاء في حل النزاعات ، ويختلف التحكيم والوساطة عن القضاء في عناصر عدة ، ويلجأ إليه كآلية بديلة لفض الخلافات في إطار يساير السرعة ووتيرة الحياة الاقتصادية، وبذلك فأي نظام قانوني للتحكيم والوساطة في التشريعات المقارنة . وقبل الإجابة عن هذا السؤال في المطلب الثاني سوف نخصص المطلب الأول للتمييز بين التحكيم والوساطة الاتفاقية .                                             

المطلب الأول: الفرق بين التحكيم والوساطة الاتفاقية:

قبل التعرض للفرق بين التحكيم والوساطة، تقتضي الضرورة تقديم تعريف لكل من التحكيم والوساطة الاتفاقية.

الفرع الأول: تعريف التحكيم والوساطة الاتفاقية.

1- التحكيم:
التعريف القانوني : يعرف البعض التحكيم بأنه نزول أطراف النزاع عن الالتجاء إلى قضاء الدولة والتزامهم بطرح النزاع على محكم أو أكثر لحسم النزاع بحكم ملزم [1]، وهو يقوم على فكرة أساسية وهي إعطاء الحق للأطراف في نزاع ما في الاتفاق فيما بينهم على استبعاد قضاء الدولة في حل منازعاتهم وإخضاعها لقضاة يختارونهم بأنفسهم ، ويرضون طوعا بالانصياع للأحكام الصادرة عنهم .                                                                      

وقد عرف المشرع المغربي في الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية التحكيم بأنه "حل للنزاع من لدن هيئة تحكيمية تتلقى من الأطراف مهمة الفصل في النزاع بناء على اتفاق تحكيم" وأضاف الفصل 307 بأن اتفاق التحكيم هو التزام الأطراف باللجوء إلى التحكيم قصد نزاع نشأ أو قد ينشأ عن علاقة قانونية معينة ، تعاقدية أو غير تعاقدية .
هذا بخلاف الفصل 306 من القانون القديم والذي لم يعط أي تعريف لهذا الاتفاق .                          

وتتجلى أهمية التحكيم بالنسبة للأفراد في سرعة البث في النزاع وفي سرية جلساته وفي عدم نشر أحكامه، وبالنسبة للسلطات العمومية في كونه يخفف العبء على المحاكم ويشكل أداة مهمة لجلب الاستثمار [2].                                                                                   



2- الوساطة الاتفاقية :
لإبراز الطابع الاتفاقي للوساطة سواء لأجل تجنب أو تسوية نزاع ، أجاز القانون للأطراف الاتفاق على تعيين وسيط يكلف بتسهيل إبرام صلح بينهم . وقد عرف الفصل 56-327 من قانون المسطرة المدنية كما يلي : "اتفاق الوساطة هو العقد الذي يتفق الأطراف بموجبه على تعيين وسيط يكلف بتسهيل إبرام صلح " لإنهاء نزاع نشأ أو قد ينشأ فيما بعد . وعلى ذلك فهدف الوساطة هو الوصول إلى الصلح بواسطة ثالث هو الوسيط . وبذلك لم يخرج المشرع الوساطة الاتفاقية من الإطار العام لعقد الصلح.                                                       

ويمكن إبرام اتفاق الوساطة قبل أو بعد نشوء النزاع ، فقبل نشوء النزاع يكون التنصيص عليه في الاتفاق الأصلي ويسمى حينئذ «عقد الوساطة» ، ويمكن إبرام هذا الاتفاق حتى في الحالة التي تكون فيها المسطرة القضائية جارية أمام المحكمة ، إذ يحتاج الأمر فقط إلى إخبار المحكمة المعنية وفي أقرب الآجال لوقف المسطرة . ولكي يكون اتفاق الوساطة صحيحا ومرتبا لأثاره القانونية يلزم توفره على مجموعة من الشروط :                         

1- يشترط في اتفاق الوساطة الكتابة إما بعقد رسمي أو عرفي وإما بمحضر يحرر أمام المحكمة. وتعتبر الإحالة في عقد ما إلى وثيقة تتضمن شرط الوساطة بمثابة اتفاق وساطة على أن يكون العقد المذكور قد أبرم كتابة وأن يكون من شأن الإحالة أن تجعل من الشرط جزءا لا التباس فيه من العقد.                                                                            

2- يشترط في عقد الوساطة الذي يلتزم فيه أطراف نزاع ناشئ بعرض هذا النزاع على وسيط، مجموعة من البيانات تخص: تحديد موضوع النزاع، تعيين الوسيط أو التنصيص على طريقة تعيينه. وفي حالة رفض الوسيط المعين القيام بمهامه جاز للأطراف الاتفاق على تعيين وسيط أخر وإلا اعتبر العقد لاغيا.                                                              

الفرع الثاني: الفرق بين التحكيم و الوساطة الاتفاقية والقضاء.

-         الفرق بين التحكيم والوساطة الاتفاقية: يتشابه التحكيم مع الوساطة الاتفاقية في كثير من النقط كما يختلفان مع بعضهما البعض في نقط أخرى وذلك كالأتي:  
                         
1- أوجه التشابه بين التحكيم والوساطة: يلتقي التحكيم مع الوساطة في نقط عديدة من أهمها أن كلا منهما:                                                                                   

         يعد من الوسائل السلمية في حل المنازعات المطروحة بين الأطراف.
         يجد أصله في اتفاق يعبر عن رغبة أطرافه في حل النزاع بعيدا عن قضاء الدولة.
         يؤدي دوره بمناسبة وجود منازعة نشأت أو قد تنشأ ما بين الأطراف المعنية .
         يحتاج إلى طرف ثالث المحكم أو الوسيط للفصل في النزاع.
         تجنب الوسائل التي لا يجوز الصلح فيها، كالمسائل المتعلقة بالنظام العام أو الحقوق التي لا يجوز التصرف فيها.
         يحتاج إلى تذييل الحكم أو وثيقة الصلح بالصيغة التنفيذية من طرف السلطة القضائية المختصة. ويكتسي عملها قوة الشيء المقضي به.

2- أوجه الاختلاف بين التحكيم والوساطة الاتفاقية: يختلف التحكيم عن الوساطة الاتفاقية في نقط متعددة منها[3] :

         أن إرادة الأطراف في التحكيم تنصرف إلى تخويل المحكم دور القاضي في حسم النزاع. فالمحكم يصدر أحكاما تحكيمية والتي تنزل منزلة الأحكام القضائية في الآثار القانونية المترتبة عنها ، لأجل ذلك فإن الشروط والضوابط الواجب توفرها في المحكم أكثر دقة ، على خلاف الوضع بالنسبة للوساطة الاتفاقية إذ يقتصر دور الوسيط على إصدار وثيقة صلح بمسطرة وإجراءات مبسطة ، كما وأن سلطة الشخص الذي يملك سلطة الوساطة تكون محدودة بحيث لا تخوله الحق في امتلاك سلطة التحكيم ، غير أن العكس صحيح بالنسبة للمحكم إذ يجوز له استعمال الصلاحيتين معا كل في مجالها . 
                                  
         يقتضي التحكيم الحكم بكل الحق لأحد الأطراف أي حل النزاع بشكل موضوعي ومباشر  أما عن التنازل الذي شمله اتفاق التحكيم فيتعلق بالتنازل عن الحق في حسم هذا النزاع أمام قضاء الدولة ليتولاه القطاع الخاص ، على خلاف الوضع بالنسبة للوساطة الاتفاقية إذ تقتضي بطبيعتها التنازل المتبادل من الخصوم عن جزء من الحق الموضوعي محل النزاع للتقارب مابين وجهات نظرهم والتوفيق في مواقفهم بتنسيق من الوسيط المسئول عن هذه المهمة .                                                                                                      

         ويختلف التحكيم عن الوساطة في كون هذه الأخيرة تعد نوعا من أنواع الصلح الاتفاقي ، فهي عبارة عن عقد يتفق الأطراف بموجبه على تعيين وسيط يكلف بتسهيل إبرام صلح قصد إنهاء نزاع نشأ أو قد ينشأ فيما بعد .                                                              

الفرق بين التحكيم والقضاء : ويعد التحكيم أسلوبا بديلا عن القضاء بحيث أن اشتراطه يحول دون اللجوء إلى القضاء في موضوع النزاع ، ويختلف التحكيم عن القضاء في نقط مختلفة وذلك من حيث أساس ونطاق كل منهما ، وإلى الصلاحيات التي تملكها هيئة التحكيم والمحكمة بالإضافة إلى الآثار المترتبة عن كل منهما . وذلك كالأتي :                                             

ü     الاختلاف من حيث الأساس : فأساس اللجوء إلى التحكيم هو إرادة طرفي النزاع سواء وردت في عقد التحكيم أو شرط التحكيم . وعلى العكس من ذلك ، فإن اللجوء إلى القضاء لا يحتاج إلى اتفاق أطراف النزاع . إذ يجوز لكل من له حق لدى الأخر اللجوء إلى القضاء طالبا الحماية القضائية لحقه الذي ينازعه فيه أخر . فاللجوء إلى القضاء هو بمثابة حق للخصم يجوز استعماله تلقائيا.                                                                        كما وأن اتفاق الأطراف على التحكيم يؤدي إلى عدم جواز رفع دعوى بشأنه أمام القضاء ، وإلا قضى هذا الأخير بعدم قبولها ، لوجود اتفاق على حل النزاع بواسطة التحكيم .            
ü     الاختلاف من حيث نطاق الاختصاص: يقتصر نطاق التحكيم على المنازعات المتعلقة بالحقوق المالية والتي يكون من الجائز الصلح والتنازل فيها ، على خلاف اختصاص القضاء الذي هو أوسع اختصاصا لولايته العامة التي تمكنه من الفصل في جميع المنازعات .        
ü     الاختلاف من حيث الأثر : إن الحكم التحكيمي له حجية نسبية حيث يقتصر أثره على طرفي النزاع وحدهما . وهذا هو الأصل في الأحكام القضائية باستثناء الأحكام الصادرة في الدعوى ذات الطبيعة العينية كدعوى الإلغاء التي تكون لها حجية مطلقة بحيث تسري في مواجهة الكافة .                                                                                            
ü     الاختلاف من حيث قابلية الحكم بالتنفيذ : فالتحكيم يحتاج إلى استصدار أمر من السلطة القضائية التي تصبغ الصيغة التنفيذية على الحكم التحكيمي . وفي حين أن الأحكام القضائية لا تحتاج إلى هذا الأمر لأنها واجبة التنفيذ بمجرد صدورها وانقضاء مواعيد الطعن فيها ما لم يكن قد قضي بوقف تنفيذها .                                                                         

المطلب الثاني : موقف التشريعات المقارنة من لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم .

إذا كان موضوع أهلية أشخاص القانون الخاص طبيعية كانت أو اعتبارية لا يثير إشكالا في أغلب الأحيان، فإن الأمر يختلف بالنسبة لأشخاص القانون العام فجل الدول ذهبت إلى التنصيص في قوانينها الداخلية ولو بدرجة متفاوتة وأخرى محتشمة على حق أشخاص القانون العام في اللجوء إلى التحكيم لفض المنازعات التي تكون طرفا فيها .                      
فإلى أي مدى نهجت التشريعات المقارنة آلية التحكيم ؟ و لإبراز كيف تعاملت هذه التشريعات مع إمكانية اللجوء إلى التحكيم سوف نعرض موقف التشريع المصري في الفرع الأول وموقف التشريع الفرنسي في الفرع الثاني .                                                   

الفرع الأول : التحكيم في نزاعات الأموال العمومية في مصر :

لقد عرف موضوع التحكيم في منازعات العقود الإدارية خلافات ومناقشات حادة بين الفقهاء والقضاة من حيث شرعية اللجوء إليه اي مرحلة ما قبل صدور القانون رقم 27 لسنة 1994 بشأن التحكيم في المواد المدنية والتجارية ، واستمر هذا الخلاف والنقاش حتى بعد صدور هذا القانون لأنه لم يتعرض للمادة الإدارية [4] حيث نص في مادته الأولى التي جاء فيها مع عدم الإخلال بالأحكام والاتفاقيات الدولية المعمول بها في جمهورية مصر العربية تسري أحكام هذا القانون على كل تحكيم بين أطراف من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص ، أيا كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع . إذا كان هذا التحكيم يجري في مصر أو كان تحكيما تجاريا ، دوليا يجري في الخارج واتفق أطرافه على إخضاعه لأحكام هذا القانون .                                                                                                

ورغم عمومية هذه المادة فلم يفهم منها جواز اللجوء إلى التحكيم من طرف أشخاص القانون العام ، فقد أثارت نقاشا فقهيا وخلافا قضائيا حول تقريرها جواز التحكيم في العقود الإدارية[5] . وبذلك انقسم الفقهاء إلى ثلاثة أراء ، رأي معارض ورأي مؤيد ورأي الوسط .                        

رأي معارض : يستند إلى أحكام المادة 172 من دستور مجلس الدولة هيئة قضائية مستقلة ويختص بالفصل في المنازعات الإدارية في الدعاوى التأديبية ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى .                                                                                                   

رأي مؤيد : استند هذا الفريق لجواز التحكيم في العقود الإدارية على مدلول نص المادة 1 الذي يخول للأشخاص القانونية العامة اللجوء إلى التحكيم في أي علاقة قانونية ذات طابع تجاري أو اقتصادي وتقبل الصلح والتصرف . ويدعم هذا الفريق رأيه انطلاقا من عمومية المادة 1 ، هذه العمومية تفسر لصالح التحكيم الإداري تطبيقا للقاعدة الأصولية : "العام يؤخذ على إطلاقه ما لم يخصص"  .                                                                          

رأي وسيط : يجيز هذا الفريق التحكيم فقط في منازعات العقود الإدارية ذات الشأن الدولي أي تلك التي يلحق بأطرافها أو موضوعها عنصر أجنبي .                                         

أما فيما يخص الاجتهادات القضائية بعد صدور هذا القانون فقد عرفت تقسيما إلى اتجاه مؤيد وأخر معارض. ولقد أجاز القضاء الإداري اللجوء إلى التحكيم لتسوية المنازعات الإدارية تطبيقا للمادة الأولى وذلك في حكم صادر في 18 يناير 1996 بشأن الدعوى المقامة من وزير الأشغال ، ضد الممثل القانوني لمجموعات الشركات الأوربية منفذ لمشروع أسنا للقناطر حيث رفضت طلب المدعى ببطلان حكم هيئة التحكيم . أما الاتجاه المعارض وهو موقف الجمعية العمومية يتمثل في الفتوى والتشريع بحجة أن شرط التحكيم يعتبر متنافيا مع إدارية العقد . [6]                                                                                              

وهكذا حسم المشرع الخلاف بالقانون رقم 9 لسنة 1999 الصادر بتاريخ ماي 1997 أضاف بموجبه فقرة ثانية إلى المادة الأولى من قانون 1999 جاء فيها : "وبالنسبة لمنازعات العقود الإدارية يكون الاتفاق على التحكيم بموافقة الوزير المختص ، أو من يتولى اختصاصه بالنسبة للأشخاص العامة الاعتبارية ولا يجوز التفويض في ذلك " [7]                             

ويتضح من نص المادة المشار إليها بأن نطاق تطبيق قانون التحكيم المصري يشمل كافة العقود الإدارية سواء كانت عقودا إدارية وطنية أو ذات طابع دولي ، وذلك لعمومية النص . كما يشمل جميع نزاعات العقود الإدارية سواء حدثت في مرحلة إبرامه أو تنفيذه أو ما يترتب عليه من أثار . ويشترط المشرع المصري لتطبيق هذه المادة موافقة الوزير المختص أو من يقوم مقامه ولا يجوز التفويض في أعمال هذه الموافقة لاعتبارات الصالح العام .               
             
كما أكد المشرع المصري التحكيم في منازعات العقود الإدارية بصدور قانون المناقصات والمزايدات لسنة 1998 حيث نصت المادة 42 : " يجوز لطرفي العقد عند حدوث خلاف أثناء تنفيذ الاتفاق على تسوية عن طريق التحكيم بموافقة من الوزير المختص . "[8]            
ومن ثم يكون المشرع المصري انتقل من حظر في اللجوء إلى التحكيم من طرف الأشخاص المعنوية العامة إلى جوازه . فما موقف المشرع الفرنسي هذه المسألة ؟                          

الفرع الثاني : موقف التشريع الفرنسي :

إن الباحث في مجال التحكيم في القانون العام يلاحظ أن دائرة التحكيم في العقود الإدارية الدولية متسعة جدا مقارنة مع نظيرتها في العقود الإدارية الداخلية ، ذلك أن المبدأ العام في التشريع الفرنسي هو منع التحكيم في العقود الإدارية .                                             

إذ عرف هذا النوع من التحكيم الحظر نهائيا في بداية الأمر ثم أبيح اللجوء إليه في مجالات محدودة . فبالرجوع إلى المادتين 83 و 1004 من قانون الإجراءات المدنية القديم نجدهما تمنعان اللجوء إلى التحكيم في المنازعات التي تكون الدولة أو مؤسساتها العمومية طرفا فيها  وقد حلت المادة 2060 من قانون المسطرة المدنية الفرنسي الصادر في 5 يوليوز 1972 التي أكدت بدورها على مبدأ الحظر .                                                                    

وبذلك فأساس الحظر المذكور يجد سنده في المادة 2060 من القانون المدني الفرنسي التي نصت في فقرتها الأولى على عدم إمكانية اللجوء إلى التحكيم فيما يخص النزاعات المتعلقة بحالة الأشخاص وأهليتهم أو تلك المتعلقة بالجماعات المحلية والمؤسسات العمومية وللتلطيف من حدة الحظر المذكور ، تدخل المشرع الفرنسي وأضاف فقرة ثانية لنص المادة أعلاه 5 يوليوز 1975 . فأجاز لبعض المؤسسات العامة ذات الطابع الصناعي والتجاري اللجوء إلى التحكيم لكن شريطة صدور مرسوم يسمح بذلك .[9]                                      

أما بالنسبة للقضاء ، فقد اعتمد القضاء العادي الفرنسي حرفيا لنص المادة 2060 فأبقى على الحظر كأساس وعلى الجواز كاستثناء . فقد ذهبت محكمة الاستئناف بباريس في قرارها الصادر في 10 أبريل 1957 بقولها أن التحكيم محظور بموجب قانون المسطرة المدنية ويتعلق الأمر بالتحكيم الداخلي دون التحكيم الدولي .[10]                                               

وفيما يخص القضاء الإداري فقد اتخذ موقفا صارما في حظر التحكيم في العقود الإدارية بوجه عام سواء كانت داخلية أو دولية. وجعل شرط التحكيم في العقود الإدارية شرطا باطلا .[11]
فالقضاء الإداري هو الجهة القضائية الطبيعية للبث في منازعات العقود الإدارية وبالتالي منح هذا الاختصاص إلى أشخاص لا ينتمون إلى قضاء الإدارة ومع ذلك يقضون في منازعات خاصة بها هو اعتداء جسيم على اختصاص القضاء الإداري .                                    

وفي نفس المنحى ذهب موقف الفقه الفرنسي في مسألة التحكيم في مجال العقود الإدارية وأبدى رأيه برفض التشدد واعتبار أن فض المنازعات هو من اختصاص القضاء الإداري . حيث قال الفقيه فيرناند بأن : «القضاء الإداري يستطيع أن يمارس الرقابة على أعمال الإدارة أفضل من المحكومين » ، كما أن الفقيه لا فيريير تساءل استنكاريا عن كيف للدولة أن تقبل منح الحكمين سلطة النظر في المنازعات التي لم توافق على منحها للقضاة العاديين[12]
                                                                                               
فقد استند الفقه في فرنسا إلى اعتماد فكرة النظام العام الذي يقضي بتغليب المصلحة العليا على المصالح الفردية ، ومن ثم فلا يجوز التحكيم في منازعات العقود الإدارية التي لا تهدف إلا لتحقيق المصلحة  العامة .غير أنه مع مطلع الألفية الثالثة ، وتوسيع مجال المعاملات التجارية والاستثمارات أصبحت العقود الإدارية بدورها تتحرر من بعض القيود . والدولة ذاتها أصبحت تبحث عن المداخيل لتحسين خدماتها في إطار المصلحة العامة .
 وأن الحلول العادية والسريعة لمنازعاتها مطلوبة للتعجيل بعجلة التنمية والتقدم الاقتصادي والعملي. الأمر الذي دفع ثلة من الفقهاء والباحثين للمطالبة برفع الحظر المفروض على التحكيم في منازعات العقود الإدارية على أساس أن يمارس في إطاره القانوني وفق ضوابطه وشروطه . [13]                                

وبذلك تم تجميع هذه الاستثناءات وأدرجت في المادة 6311 من القانون رقم 387/ الصادر في 4 ماي 2000 . وقد أثارت هذه المادة انتقادات من طرف الفقهاء . على أساس أن هذه الاستثناءات التشريعية السالفة الذكر ، تشكل استثناء عن الحظر الوارد في المادة 2060 من قانون المسطرة المدنية الفرنسي . فكان من المنطقي أن تدرج هذه المادة في قانون المسطرة المدنية ، فضلا عن أن هذه الاستثناءات تنظم علاقات في القانون الخاص والقضاء الإداري غير مختص إلا بالقدر الذي يطبق فيه القانون العام على النزاع .                                 

التعريف الفقهي : عرف بعض الفقه التحكيم بما يلي : "يقصد بالتحكيم العدالة الخاصة وهي آلية يتم وفقا لها سلب المنازعة من الخضوع لولاية القضاء العام ، لكي يتم الفصل فيها بواسطة أفراد عهد إليهم بهذه المهمة" . وعرفه أخر بأنه "الاتفاق على طرح النزاع على شخص معين أو أشخاص معينين ليفصلوا فيه دون المحكمة المختصة ."                       

وفي تعريف أخر ، التحكيم هو الفصل في النزاع بواسطة طرف أو هيئة أو مجموعة أفراد يتفق الخصوم على إحالة النزاع إليهم دون المحاكم المختصة بذلك .                             

وحسب بعض الفقهاء الفرنسيين ، فالتحكيم نظام استثنائي للتقاضي يجوز بموجبه للدولة وباقي أشخاص القانون العام الأخرى إخراج بعض المنازعات الإدارية الناشئة عن علاقة قانونية عقدية أو غير عقدية ، وطنية كانت أو أجنبية من ولاية القضاء الإداري لكي تحل بطريق التحكيم بناء على نص قانوني يجيز ذلك .  



المبحث الثاني: التحكيم في منازعات العقود الإدارية بالمغرب                     
  للإحاطة بوضعية التحكيم في منازعات العقود الإدارية  بالمغرب،تقتضي الضرورة تناول الموضوع من خلال مرحلتين، المرحلة الأولى التحكيم في منازعات العقود الإدارية قبل صدور قانون05-08- (المطلب الأول)،والمرحلة الثانية بعد صدور قانون05-08  
     08-05المطلب الأول :التحكيم في منازعات العقود الإدارية قبل صدور قانون
في هذه المرحلة ارتأينا التطرق إلى مسألتين الأولى تتعلق بالمقتضيات القانونية المانعة لحق اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية(الفرع الأول) والمسألة الثانية تتعلق بالأسباب الدافعة إلى فتح المجال أمام التحكيم (الفرع الثاني) .
الفرع الأول :المقتضيات القانونية المانعة لحق اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية  
نظم المشرع المغربي التحكيم لأول مرة في قانون المسطرة المدنية لسنة 1913 وذلك بمقتضى الباب الخامس من القسم السابع في الفصول من 527 إلى 549،دون أدنى إشارة إلى إمكانية لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم، وجعله مبدءا عاما يسري على مختلف العقود مهما كانت طبيعتها،سواء كانت إدارية أو تجارية وطنية أو دولية،وذلك بمقتضى الفصل 527 والذي جاء فيه: " لكل الأشخاص أن يتفقوا على التحكيم في الحقوق التي يملكون حق التصرف فيها باستثناء المسائل التي تتعلق بالنظام العام".
ورغم التعديل الذي عرفه قانون المسطرة المدنية بمقتضى ظهير 28 شتنبر 1974،ظل المشرع المغربي متشبتا بموقفه السابق من عدم إمكانية لجوء أشخاص القانون العام الى التحكيم، إذ جاء في الفصل 306 منه أنه لا يمكن الاتفاق عليه – أي التحكيم- في المسائل التي تمس النظام العام1 ،وخاصة منها النزاعات المتعلقة بعقود أو بأموال خاضعة لنظام يحكمه القانون العام ،والنزاعات المتصلة بتطبيق قانون جبائي وغيرها .
_________
1-    نص الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية على مايلي " يمكن للأشخاص الذين يتمتعون بالأهلية أن يوافقوا على التحكيم في الحقوق التي يملكون حق التصرف فيها غير انه لايمكن الاتفاق على التحكيم  فيما يخص الأمور التالية
                _ المسائل المتعلقة بالأشخاص وأهليتهم
               _ الهبات والوصايا المتعلقة بالأطعمة والملابس والمساكن
              _ المسائل التي تمس النظام العام وخاصة
·        النزاعات المتعلقة بعقود أو أموال خاضعة لنظام يحكمه القانون العام
·        النزاعات المتعلقة بتطبيق قانون جبائي
·        النزاعات المتعلق بقوانين تتعلق بتحديد الأثمان والتداول الجبري والصرف والتجارة الخارجية












على أساس اعتبار مثل هذه المنازعات التي تحكمها قواعد القانون العام تندرج ضمن النظام العام،الذي لايجوز التحكيم بشأنه،لتجنب الإضرار بمرافق حيوية هدفها تحقيق وحماية المنافع العامة.
وبما أن العقود الإدارية تتصل اتصالا وثيقا بالنظام العام فلا مجال للتحكيم في منازعتها.
ويرجع السند القانوني الذي على أساسه تم إسناد القضايا الإدارية إلى القضاء الإداري في الأنظمة ذات القضاء الإداري،هو جعله صاحب الولاية العامة للبث في سائر المنازعات الإدارية تحقيقا للتخصص المطلوب2.
فبالنسبة للقضاء الإداري المغربي ينص القانون رقم 90-41 المتعلق بالمحاكم الإدارية في المادة 8  أن: " تختص المحاكم الإدارية بالبث ابتدائيا في طلبات إلغاء قرارات السلطات الإدارية بسبب تجاوز السلطة ،وفي النزاعات المتعلقة بالعقود الإدارية".
وإذا كانت فكرة النظام العام التي تحكمها المصلحة العامة هي التي منعت اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية،فقد أصبحت على العكس من ذلك تشكل مقاربة جديدة في جعل المشرع يضع القانون الجديد،ويقرر إمكانية اللجوء إلى التحكيم في منازعات العقود الإدارية.
ويرجع ذلك إلى مجموعة من الأسباب التي سنعمل على مناقشتها في الفرع الموالي.

الفرع الثاني :الأسباب الدافعة إلى فتح المجال أمام التحكيم
لعل الأسباب الدافعة إلى فتح المجال قانونا باللجوء إلى التحكيم ترجع إلى :
ü     عملية الإسراع التي تتطلبها النزاعات المطروحة بشأن العقود الإدارية والتي لاتتحقق إلا في إطار اللجوء إلى التحكيم،لأن الجهات القضائية أصبحت تعرف ارتفاع في عدد القضايا المطروحة عليها، الأمر الذي يتطلب التخفيف من وتيرة عدد القضايا المعروضة على المحاكم،عن طريق إيجاد وسائل بديلة لفض المنازعات ومن بينها التحكيم3.
ü     الاعتبارات الاستثمارية فالتحكيم هو من متطلبات المستثمرين الأجانب على الخصوص، وان لم نقل شرطا يفرضه المستثمر الأجنبي على كل دولة مضيفة لاستثماره، وأمام مراهنة المغرب على الاستثمارات الخارجية للدفع بعجلة الاقتصاد إلى الأمام،تدخل المشرع المغربي بنصوص خاصة لفك الحصار ورفع الحظر الوارد على أهلية الدولة ومؤسساتها العمومية بخصوص اللجوء إلى التحكيم باعتباره ضرورة اقتصادية فرضتها اكراهات التقدم الاقتصادي4،ومن بين النصوص نذكر: ظهير 17 يناير 1983 حول الاستثمارات الصناعية في الفصل 39 منه، وكذا المرسوم 30 دجنبر 1998 المتعلق بتحديد شروط وإشكال إبرام صفقات الدولة.
هذه الأمور من الأسباب الدافعة إلى فتح مجال اللجوء إلى التحكيم في المواد التجارية والمدنية، فهل تطبيق هذه المقتضيات يمتد ليشمل حتى مادة العقود الإدارية؟ هذا ما سنجيب عليه في المطلب الموالي. 


_________
2- الدكتورة مليكة الصروخ – الصفقات العمومية في المغرب- (الأشغال- التوريدات- الخدمات ) الطبعة الثانية لسنة 2012 صفحة586
3- الدكتورة مليكة الصروخ – المرجع السابق- صفحة588
4- مجلة الحقوق المغربية "فقه المنازعات الادارية" سلسلة مختصة في مجال العلوم والمنازعات الادارية العدد الثاني ل 2012 صفحة 21



المطلب الثاني:  التحكيم بعد صدور قانون08.05.
سوف نتطرق للحديث في هذا المطلب عن المقتضيات القانونية المخولة لحق التحكيم في الفرع الأول وكذا كيفية تشكيل الهيئة التحكيمية في الفرع الثاني.

الفرع الاول: المقتضيات القانونية المخولة لحق اللجوء الى التحكيم.
بإلقاء نظرة خاطفة على مقتضيات هذا القانون، وخاصة في جانبه المتعلق بموضوع التحكيم في منازعات العقود الإدارية الداخلية، يمكن القول بأن المشرع المغربي خطا خطوات شجاعة في إقرار التحكيم المذكور لأول مرة، متجاوزا مختلف الانتقادات الموجهة لنظيره الفرنسي والمصري.
فبالنسبة للتحكيم الداخلي نجد الباب الثامن من قانون المسطرة المدنية وبموجب التعديل الذي أدخل عليها بمقتضى قانون 08.05 نص المشرع صراحة في الفصل 308 على ما يلي" يجوز لجميع الاشخاص من ذوي الأهلية الكاملة سواء أكانوا طبيعيين أو معنويين أن يبرموا اتفاق التحكيم في الحقوق التي يملكون حرية التصرف فيها، ضمن الحدود ووفق الاجراءات والمساطر المنصوص عليها " [14].
تشير هذه المادة إلى أهلية أشخاص القانون المعنوية في الموافقة على التحكيم فقد كانت من المسائل التي لم تستقر مواقف التشريعات وأقلام الفقهاء وأحكام القضاء بشأنها لاسيما بخصوص أهلية الدولة والجماعات المحلية في إبرام اتفاقات التحكيم.
فهناك من يرى عدم جواز مباشرة الأشخاص المعنوية العامة للتحكيم في حين يذهب البعض إلى خلاف ذلك.
والحقيقة أنه ينبغي التمييز بين تدخل الدولة أو الجماعات المحلية في التحكيم بشأن الأملاك العامة وبين تدخلها بخصوص أملاكها الخاصة، إذ في الحالة الأولى لا يسوغ لها مباشرة التحكيم، أما في الحالة الثانية فمستساغ لأنها تعد شخصا عاديا يخضع للقواعد العامة شأنها في ذلك شأن الأفراد[15].
أما بالنسبة لأهلية الأشخاص المعنوية الخاصة كالشركات والجمعيات فليس هناك مانع قانوني على مباشرتها للتحكيم، كل ما هناك ان عليها أن توافق عليه بواسطة ممثلها.  
كما نصت المادة 309 من قانون مسطرة المدنية على أنه" لايجوز أن يبرم اتفاق التحكيم بشأن تسوية النزاعات التي تهم حالة الأشخاص وأهليتهم أو الحقوق الشخصية التي لا تكون موضوع التجارة"، فمن خلال هذه المادة يتضح أن المسائل التي تتعلق بحالة الأشخاص وأهليتهم لا يمكن أن تكون محل تحكيم لأنها خاضعة لنظام قانوني يستمد مقوماته من الشريعة الاسلامية وهذا لا يعني أن التحكيم لا يجوز قطعا في مواد الأحوال الشخصية.
كما أجاز في الفقرة الثانية من المادة 310 على أن " النزاعات المالية الناتجة عنها( أي التصرفات الأحادية) يمكن ان تكون محل عقد تحكيم ما عدا المتعلقة بتطبيق قانون جبائي" باعتبارها تنتمي إلى قضاء المشروعية الذي يتنافى وإمكانية التحكيم فيها على أساس أن المنازعات التي تثور بشأنها تنصب على مشروعية القرار الإداري والطعن فيها بذاته باعتباره محلا لدعوى الإلغاء التي تعتبر وسيلة لحماية المشروعية ويعد اختصاص القضاء الإداري بشأنها من النظام العام[16] .
والمشرع أجاز بالتبعية في الفقرة الثالثة من نفس المادة على " أن للدولة والجماعات المحلية حق إبرام اتفاق التحكيم بشأن النزاعات المتعلقة بالعقود التي يبرمها شريطة التقييد بالمقتضيات الخاصة بالمراقبة أو الوصاية المنصوص عليها في النصوص التشريعية الجاري بها العمل فيما يخص العقود المعنية" يستفاد من هذه المقتضيات ان المشرع رفع الحظر المتعلق بعدم جواز الإتفاق على التحكيم في العقود الإدارية، فعلى الرغم من ان المقتضيات الفصل 310 جاءت فضفاضة بحيث انها لم تحدد العقود التي يمكن للدولة أو الجماعات المحلية الاتفاق على التحكيم بشأنها،إلا ان الشائع في القانون الإداري أن الدولة تلجأ في تعاملاتها إلى نوعين من العقود، عقود خاضعة لنظام يحكمه القانون الخاص وعقود خاضعة لنظام القانون العام وهي العقود الإدارية ومن ثم يمكن الإستناد إلى إرادة المشرع الضمنية والمعبر عنها في الفصل 310 السالف الذكر.
من هنا يمكن القول أن عقود صفقات الدولة تدخل في مجال التحكيم سواء تعلق الأمر بالصفقات الوطنية أو المحلية، لكن في حدود الضوابط القانونية والتنظيمية لها[17] 
كما نص الفصل 311في فقرته الثانية على أنه" يجوز للمؤسسات العامة إبرام عقود تحكيم وفق الإجراءات والشروط المحددة من لدن مجالس إدارتها وتكون الإتفاقات المتضمنة لشروط تحكيم محل مداولة خاصة، يجريها مجلس الإدارة" من خلال هذا الفصل يتضح أن المشرع المغربي لم يكن موفقا في صياغته إذ ميز من حيث الإجراءات الواجب اتباعها في حالة إبرام عقد تحكيم أو شرط تحكيم، إذ يكون الأول وفق الإجراءات والشروط المحددة من لدن مجالس إدارة المؤسسات العامة، في حين يكون الثاني محل مداول خاصة يجريها مجلس الإدارة[18].
كما أعطى المشرع المغربي للدولة، والمقاولات العامة، إمكانية اللجوء إلى التحكيم، عندما يكون النزاع محل الإتفاق متعلقا بالعقود المبرمة من طرفها إلا إذا تعلق الأمر بالنزاعات الجنائية وأيضا المتعلقة بالتصرفات الأحادية للدولة والجماعات المحلية وغيرها من الهيئات المتمتعة بالسلطة العمومية فهي لا تكون محل تحكيم . 
وتماشيا مع خصوصيات لجوء الدولة ومؤسسات العامة لحل النزاعات التي تكون طرفا فيها عن طريق التحكيم فإن المشرع أفرد لها قواعد خاصة يجب ان تخضع لها، فعلى عكس الأحكام التحكيمية الصادرة بين الأشخاص الخاصة الطبيعية أو المعنوية التي تحوز حجية المقضي به بمجرد صدورها، فإن الأحكام التحكيمية التي تكون الأشخاص المعنوية العامة طرفا فيها لا بد من تذييليها بالصيغة التنفيذية من طرف رئيس المحكمة الإدارية بالرباط عندما يكون تنفيذ الحكم التحكيمي يشمل مجموع التراب الوطني [19] في فقرته الأخيرة.

الفرع الثاني: الهــيئة التـحكيـميــــة:
لممـارسة الهيئة التحكيمية لمهامهـا، ينبغي أن يكون تشكيلها صحيحا، و أن تكون الإجراءات المنتهجة في  قيامها بعملها مطابقة للمقتضيات القانونية، وذلك كالآتي:
تشــكيل الهــيئـة التـحكيمــية:
تشكل الهيئة التحكيمية من محكم واحد أو عدة محكمين، تكون للأطراف حرية تحديد إجراءات تعيينهم و عددهم؛ إما في الإتفاق التحكيمي و إما بالإستناد إلى نظام التحكيم الموضعي للمؤسسة المختارة.
فإذا لم يتفق الأطراف علي عدد المحكمين كان العدد ثلاثة. و في حالة تعدد المحكمين، وجب أن يكون عددهم و ترا و إلا كان التحكيم باطلا.
و لا يعتبر تشكيل الهيئة التحكيمية كاملا إلا إذ قبل المحكم أو المحكمون المعنيون المهمة المعهود إليهم بها، و يتم القبول لهذه المهمة بموجب كتابة بالتوقيع على اتفاق التحكيم أو بتحرير عقد ينص على الشروع في القيام بالمهمة.
الإجــراءات و الطـلبــــات العــارضــــة:
تبدأ إجراءات التحكيم من اليوم الذي يكتمل فيه تشكيل هيئة التحكيم ما لم تنفق الأطراف على غير ذلك.
و يتعين على الهيئة التحكيمية قبل النظر في الموضوع أن تبت إما تلقائيا أو بطلب من أحد الأطراف في صحة و حدود اختصاصاتها أو في صحة اتفاق التحكيم و ذلك بأمر غير قابل للطعن و إلا وفق نفس شروط النظر في الموضوع و في نفس الوقت.
و يمكن للهيئة التحكيمية الاستعانة بالتحديد الذي يبينه الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف ذات الاختصاص المكاني – بهذا الشأن – و ذلك بناء على طلبها.
و لطرفي التحكيم الحق في الاتفاق على مكان التحكيم في المملكة المغربية أو خارجها، فإذا لم يوجد اتفاق عينت هيئة التحكيم مكانا ملائما  للتحكيم، مع مراعاة ظروف الدعوى و محل إقامة الأطراف.
و لا يحول ذلك دون أن تجتمع هيئة التحكيم في أي مكان تراه مناسبا للقيام بإجراءات التحكيم كسماع أطراف النزاع أو الشهود أو الخبراء للقيام أو الإطلاع على المستندات أو معاينة بضاعة أو أموال أو إجراء مداولة بين أعضائها أو غير ذلك.
و يعامل أطراف التحكيم على قدم المساواة و تهيئ لكل منهم فرصة كاملة و متكافئة لعرض دعواه و دفوعاته و ممارسة حقه في الدفاع.
و يجري التحكيم باللغة العربية ما لم يتفق الطرفان على غير ذلك أو تحدد هيئة التحكيم لغة أو لغات أخرى و يسري حكم الاتفاق أو القرار على لغة البيانات و المذكرات المكتوبة و الوثائق و المرافعات الشفهية و كذا على كل قرار تتخذه الهيئة أو حكم تصدره ما لم ينص اتفاق الطرفين أو قرار هيئة التحكيم على غير ذلك.
ويجوز لهيئة التحكيم أن تطلب ترجمة كل أو بعض الوثائق المكتوبة إلى اللغة أو اللغات المستعملة في التحكيم.
و يجب على المحكمين في حالة تعددهم أن يقوموا بالمشاركة جميعا في كل الأشغال و العمليات و في تحرير جميع المحاضر إلا إذا أذن لهم الأطراف في انتداب أحدهم للقيام بعمل معين.
و تطبق هيئة التحكيم على موضوع النزاع القواعد القانونية التي يتفق عليها الطرفان. و في حالة عدم اتفاقهما بشأن هذه القواعد، تتولى هيئة التحكيم تطبيق القواعد الموضعية في القانون الذي ترى أنه الأكثر اتصالا بالنزاع. و عليها في جميع الأحوال أن تراعي شروط العقد موضوع النزاع و تأخذ بعين الاعتبار الأعراف التجارية و العادات و ما جرى عليه التعامل بين الطرفين. و إذا اتفق طرفا التحكيم صراحة على تفويض هيئة التحكيم صفة وسطاء بالتراضي، تفصل الهيئة في هذه الحالة في موضوع النزاع بناء على قواعد العدالة و الإنصاف دون التقيد بالقانون.
أما عن مدة صلاحية هيئة التحكيم، فتتم بناء على اتفاق التحكيم، و في حالة عدم تحديده، فإن مهمة المحكمين تنتهي بعد مضي ستة (6) أشهر على اليوم الذي قبل فيه آخر محكم مهمته، و يمكن تمديد الأجل الاتفاقي أو القانوني بنفس المدة إما باتفاق الأطراف و إما من لدن رئيس المحكمة بناء على طلب من أحد الأطراف أو من الهيئة التحكيمية.
و إذا لم يصدر حكم التحكيم خلال الأجل المذكور أعلاه، جاز لأي من طرفي التحكيم أن يطلب من رئيس المحكمة المختصة أن يصدر أمرا بإنهاء إجراءات التحكيم فيكون لأي من الطرفين بعد ذلك رفع دعواه إلى المحكمة المختصة أصلا للنظر في النزاع.
أما إذا صدر الحكم التحكيمي – و هو الهدف المطلب – ف التاريخ المقرر له من طرف هيئة التحكيم، فإنه لا يجوز على إثره تقديم أي طلب جديد أو إثارة أي دفع جديد، و لا يجوز إبداء أية ملاحظة جديدة و لا الإدلاء بأية وثيقة جديدة ما لم يكن ذلك بطلب من الهيئة التحكيمية.[20]




لائحة المراجع

1- مصطفى التراب . موقع نظام التحكيم في التشريع المغربي . مجلة ديوان المظالم , دجنبر 2008 عدد مزدوج 6- 7

2- عبد الرحيم رضائي , الوجيز في شرح القانون المغربي الجديد للتحكيم الداخلي الجزء الأول . مطبعة سليكي إخوان طنجة   2009

3- مليكة الصروخ : الصفقات العمومية في المغرب (الأشغال , التوريدات , الخدمات) طبعة ثانية  2012

4- زكرياء سريدي : قدرة أشخاص القانون العام في اللجوء إلى التحكيم . مجلة الحقوق المغربية . فقه المنازعات الإدارية . العدد الثاني 2012

5- أشرف محمد خليل حماد : التحكيم في المنازعات الإدارية وأثاره القانونية . طبعة 2010.
6- محمد المحجوبي : دور التحكيم في تسوية منازعات العقود الإدارية الداخلية في ضوء القانون المقارن  مجلة المحاكم التجارية العدد 3 و 4



 مصطفى التراب . موقع نظام التحكيم في التشريع المغربي . مجلة ديوان المظالم , دجنبر 2008 عدد مزدوج 6-7 ص 13 .[1]
 عبد الرحيم رضائي , الوجيز في شرح القانون المغربي الجديد للتحكيم الداخلي الجزء الأول . مطبعة سليكي إخوان طنجة 2009 ص 9 .[2]
 مليكة الصروخ . الصفقات العمومية في المغرب . مرجع سابق , ص 614-615 .[3]
 مليكة الصروخ : الصفقات العمومية في المغرب (الأشغال , التوريدات , الخدمات) طبعة ثانية 2012 ص 568 .[4]
 زكرياء سريدي : قدرة أشخاص القانون العام في اللجوء إلى التحكيم . مجلة الحقوق المغربية . فقه المنازعات الإدارية . العدد الثاني 2012 ص[5]
18 .
 مليكة الصروخ . مرجع سابق ص 578 .[6]
 زكرياء سريدي . مرجع سابق ص 19 .[7]
 أشرف محمد خليل حماد : التحكيم في المنازعات الإدارية وأثاره القانونية . طبعة 2010 . ص 91[8]
 محمد المحجوبي : دور التحكيم في تسوية منازعات العقود الإدارية الداخلية في ضوء القانون المقارن , مجلة المحاكم التجارية العدد 3 و 4 [9]
ص 14-15 .
 مليكة الصروخ , مرجع سابق ص 582 .[10]
 شرط التحكيم في المادة 1442 من قانون المسطرة المدنية بأنه : اتفاق يتعهد بمقتضاه الأطراف في عقد من العقود بإخضاع المنازعات[11]
التي يمكن أن تنشأ بينهم في المستقبل للتحكيم .
 محمد المحجوبي المستشار بالمجلس الأعلى بالمملكة المغربية . مرجع سابق ص 16 .[12]
 مليكة الصروخ . المرجع السابق ص 583 .[13]
[14]  محمد محجوبي، مرجع سابق ص 25.
[15] مليكة الصروخ، مرجع سابق ص 593.
[16]  زكرياء سويدي، مرجع سابق ص 23.
[17]  مليكة الصروخ، مرجع سابق ص 593.
[18]  زكرياء سويدي، مرجع سابق ص 25.
[19]  مليكة الصروخ، مرجع سابق ص 594.
[20] مليكة الصروخ، مرجع سابق ص 600.
TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *