-->

الحيازة فقها وقانونا

محمد بن يعيش
رئيس غرفة بمحكمة النقض

وأستاذ زائر بكلية الحقوق بطنجة

الحيازة فقهاً وقانوناً :
مقدمة:
لم يكن القانون العقاري المغربي بمفهومه الوضعي ينص على أحكام الحيازة الإستحقاقية، وظلت الحيازة المكسبة للملك تخضع لأحكام الشريعة الإسلامية وفق المذهب المالكي، في العقار غير المحفظ، إلى أن وضعت مدونة الحقوق العينية العقارية مؤخراً، وبدئ في تطبيقها منذ 24/5/2012.
وقد تناولت بين الأحكام الفقهية التي قننتها الحيازة الإستحقاقية، وذلك في المواد 239 إلى 263.
ورغم أن المدونة قننت أحكام الحيازة، فقد نصت في المادة الأولى منها بأن ما لم يرد نص به يرجع فيه إلى ق.ل.ع، وإذا لم يوجد نص يرجع إلى الراجح والمشهور، وما جرى به العمل من الفقه المالكي.
وقد فصلت أحكام الحيازة في الفقه الإسلامي، بما في ذلك الفقه المالكي الذي اعتمدته المدونة، وأدخلت القوانين المقارنة الحيازة وأحكامها في القوانين المدنية.
وتختلف المقاربة في الحيازة بين الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية المقارنة من حيث التصور والأساس، ويمكن القول بأن الحيازة الإستحقاقية تعتبر مدخلاً للحائز لملك ما يحوزه كلما توفرت له شروط هذا الملك.
ولذلك نخصص المبحث الأول لمفهوم الحيازة الإستحقاقية في الفقه والقانون، بينما نعرض في المبحث الثاني لشروط الملكية سواء تعلقت بالشيء المحوز أو بأطراف العلاقة في الحيازة (المحوز عليه خاصة) أو الشروط الموضوعية للملكية.

المبحث الأول: مفهوم الحيازة الإستحقاقية وتمييزه عن الحيازة العرضية:
يراد بالحيازة الإستحقاقية الدليل على الملك للحائز ، وهي ليست الحيازة العرضية أو الحيازة التصرفية المنظمة في ق.م.م بمقتضى الفصول من 166 إلى 170.
المطلب الأول: مفهوم الحيازة الإستحقاقية:
يدخل فقهاء القانون الوضعي الحيازة ضمن أسباب الملكية، ويدرسونها في إطار حق الملكية العقارية، ضمن الأسباب المؤدية إلى ملكية هذا الحق أو أي حق عيني عقاري ، بينما الرأي في الفقه الإسلامي أن الحيازة دليل ظني على الملكية( )، وسمت المدونة الحيازة سبباً للملكية وذلك في القسم الأول من الكتاب الثاني الذي أوردت فيه أسباب كسب الملكية، في المواد 239 إلى 263 المشار إليها، ومهما يكن فإن الخلاف في الرأي في وصف الحيازة بإنها سبب للملك أو دليل عليه، لا يترتب عنه خلاف في النتيجة ألا وهي استحقاق الملك للحائز وانقطاع حجة المحوز عليه إذا توفرت شروط الملكية للحائز.
الفرع الأول: تعريف الحيازة الإستحقاقية:
يعرف كل من الفقه والقانون (م.ح.ع) الحيازة الإستحقاقية ويتناولاها من منظور مختلف، فالفقه يعتبرها دليلا على الملكية، والقانون سبباً لها.
الفقرة الأولى: تعريف الحيازة فقهاً:
أ ـ في الفقه الإسلامي:
يعرض الفقه لمفهوم الحوز أو اليد، ضمن الشروط المتعلقة بثبوت الملك لمالك حق عيني عقاري، ويعتبرها مختلفة عن التصرف( )، فقد ورد عن العلامة سيدي المهدي الوزاني في حاشيته على شرح التاودي ابن سودة للامية الزقاق "أما أولاً فإنه فسر الحوز وما بعده بالتصرف مع أن الحوز والتصرف متغايران، فكيف يجعلان شيئاً واحداً" والغالب لدى الفقهاء أن يتناولوا جملة من التعريفات لعدة موضوعات عند الوقوف عليها، بينما الحوز تناوله الفقهاء في إطار شروط الملك الذي يقترن بالحيازة. وعلى غرار مقاربة الفقهاء الأقدمين للحيازة والحوز أو وضع اليد المعتبر شرطاً من شروط الملك، نهج فقيه وموثق الأجيال أبو الشتاء بن الحسن الغازي الحسيني، فقد تناول الحيازة دون تعريف، وميز بين نوعين منها:
1- الحيازة المثبتة للملك مع بقية شروطه ـ وهذه تكفي فيها عشرة أشهر أو أكثر، وأقل من هذه المدة لا يشهد بها.
2- الحيازة المبطلة للملك قبلها، وهي التي تصل المدة فيها إلى عشر سنين بين الأجانب والأقارب المتشاجرين بينهم.
أما الأولى المثبتة للملك فمحلها الشيء الذي لم يعرف له مالك قبل حائزه (مجهول أصل الملك)، بينما الثانية محلها أن يعرف مالك الشيء قبل حائزه لتلك المدة الطويلة (عشر سنين فأكثر) مع جهل أصل مدخل الحائز .
ويبدو أن الحيازة في الفقه الإسلامي عموماً لم تعرف على غرار الشفعة والقسمة والإستحقاق مثلاً واعتبرت دليلاً على الملك وشرطاً من شروطه.
ب ـ في الفقه الوضعي:
لم ينهج فقهاء القانون المدني على غرار فقهاء الشريعة الإسلامية في الحيازة دراستها في إطار الأدلة على الملك، ووقع تناولها في هذا الفقه في إطار أسباب الملك، كما عرضوا لتعريفها، غير أن بعض الفقه الوضعي إذا صح التعبير عرفها مباشرة ـ مثلما فعل الأستاذ مأمون الكزبري الذي عرفها بأنها السلطة الواقعية أو السيطرة الفعلية على شيء منقولاً كان أو عقاراً، أوعلى حق عيني مترتب على شيء، شريطة أن لا تكون الأعمال التي يأتيها شخص على أنها مجرد رخصة من المباحات أو التي يتحملها الغير على سبيل التسامح .
في حين اقتبس الأستاذ عبد الرزاق أحمد السنهوري تعريف الحيازة من مشروع التقنين المدني المصري في المادة 1398 التي ألغتها لجنة مجلس الشيوخ بداعي غلبة الطابع الفقهي عليه ـ وورد في تعريفه للحيازة بأنها وضع مادي ينجم عن أن شخصاً يسيطر سيطرة فعليه على حق لنفسه أو لغيره ، وتتجلى هذه المسطرة في استعماله للحق عن طريق أعمال مادية يقتضيها مضمون هذا الحق.
ومثل هذا التعريف بالإضافة إلى وصف الحيازة بأنها ليست سبباً للملك وهو الطابع الذي أكد عليه المؤلف بقوله بأن الحيازة كالشفعة ليست بحق، ولكنها سبب لكسب الحق، وهي واقعة مادية بسيطة تحدث آثاراً قانونية لم يخل من الإشارة إلى دلالتها على الملك مما ورد فيه من أن السيطرة فيها تتجلى في استعمال الحق عن طريق أعمال مادية يقتضيها مضمون هذا الحق.
وهذا المظهر للحيازة مادي محض، فالحائز يحرز الشيء في يده إحرازاً مادياً، ويباشر عليه أعمالاً عادة ما يختص بها المالك، ويتحدد نوع الحق الذي يباشر عليه هذه الأعمال بحسب الإستعمال الذي يجريه عليه، فإذا سكن الدار أو أكراها للغير أو أفلح الأرض لنفسه أو بواسطة غيره، فإن صفة هذا الإستعمال تفيد نوع الحق المستعمل وهو حق الملكية ـ وإذا اقتصر على نوع آخر من الحقوق العينية المنقولة أو العقارية من خلال طريقة الإستعمال، كالإرتفاق بالمرور أو الإستعمال والإستغلال وحدهما الذين يفيدان حق الإنتفاع دون حق الملكية تحدد هذا الحق، في الإرتفاق والإنتفاع وحدهما، غير أن السيطرة المادية واستعمال الشيء بطرق مادية مختلفة يستبطن الحائز فيها عنصراً أساسياً لينشأ له الملك بها يتجلى في القصد من هذا الإستعمال، وهو العنصر الذي تقوم عليه النظرية الشخصية التي يمثلها سافيني مقابل النظرية المادية لإهرنج ـ وقد أخذ بالنظرية الشخصية في الحيازة القانون المدني الفرنسي والقوانين المدنية التي أخذت عنه ضمن منظومة القوانين اللاتينية ـ وتعني هذه النظرية أن الحيازة لا يكفي فيها العنصر المادي، بل إلى جانبه يجب توفر العنصر المعنوي، وهو أن يكون الحائز قاصداً أن يستعمل الحق لحساب نفسه ، وبحسب قصد الحائز يتحدد نوع الحق المكتسب بالحيازة، فإذا كان حق ملكية وجب توفر نية التملك والتصرف تصرف المالك، وإذا كان نوعاً آخر من الحقوق العينية، وجب كذلك أن يستعمله ويتصرف فيه تصرف مالك ذلك الحق، مثل حق الإرتفاق بالمرور والشرب وحق الإنتفاع والسطحية وغيرها، ويمكن القول بأن النظرية الشخصية في القصد في الحيازة تعني أن يحوز الشخص، ويستعمل الحق، ويتصرف فيه لنفسه، لا لغيره، فالمكتري والمعار له، والمودع عنده، لا يمكن أن يقر لهم بالحيازة لأن القصد عندهم منتف، وهو أنهم لا يحوزون لأنفسهم، وإنما يحوزون لغيرهم.
أما النظرية المادية ـ في القصد في الحيازة، التي يتزعمها إهرنج، فتعني أن عنصر القصد في الحيازة، ليس مستقلاً عن العنصر المادي، الذي هو السيطرة الفعلية على الشيء، إذ أن النية لدى الحائز ليست إلا في الأعمال المادية التي يباشرها على الشيء لتحقيق سيطرته، فلا تتحقق هذه السيطرة إلا إذا أرادها، فعديم التمييز مثلاً لأنه لا إرادة تصرفية عنده لا يحوز شيئاً بنفسه، وينوب عنه نائبه في ذلك لإرادته القصدية إلى الحيازة عنه، ويتحقق القصد في حيازة الشيء، سواء كانت هذه الحيازة من طرف الحائز لنفسه أو بواسطة غيره كالمكتري والمستعير كلاهما يسيطر على الشيء الذي يحوزه، ولو كانت حيازتهما لحساب غيرهما، وهذا الفرق بين القصد الإرادي في النظرية الشخصية التي لا يجوز أن يحوز حائز إلا لنفسه، والنظرية المادية التي لا تعتبر في القصد إلا حصول الحيازة المادية بغض النظر عن حصولها من الحائز لنفسه أو لغيره .
الفقرة الثانية: مفهوم الحيازة قانوناً:
الحيازة الإستحقاقية من الموضوعات التي اهتمت القوانين المدنية الوضعية بتحديد مفهومها وتعريفها، ولا يختلف القانون المغربي (م.ح.ع) في ذلك عن القانون المقارن.
أ ـ الحيازة الإستحقاقية في القانون المقارن (القانون المدني الفرنسي):
بدأت الحيازة في القانون المدني الفرنسي (تقنين بابليون)، من حيث انتهى تطورها في القانون الفرنسي القديم الذي أخذ هذا المفهوم عن القانون الروماني الذي تطورت الحيازة فيه من الحيازة المادية، ـ وهي لم تكن إلا على حق الملكية، بمعنى أنها كانت تختلط بالشيء مادياً، ولا تتصور بمعزل عنه ـ إلى شبه الحيازة أو حيازة الحق، وبعبارة أخرى لم تبق الحيازة يعنى بها حيازة حق الملكية وحده، ولا يبقى أي عنصر من هذه العناصر خارج حيازة الحائز ـ وهي الحيازة التامة، وإنما تطورت ليصبح ممكناً حصول حيازة الحقوق العينية الأخرى، غير حق الملكية كحق الإنتفاع، وحق الإرتفاق، وسميت لذلك هذه الحيازة بحيازة الحق أو شبه الحيازة.
غير أن القانون المدني الفرنسي عند وضعه، أنهى الفرق بين الحيازة التامة وشبه الحيازة، وأصبحت الحيازة شيئاً واحداً، بغض النظر عن الحق الذي يراد بها، سواء كانت ملكية أو حقاً عينياً آخر متفرعاً عنها.
وقد سوغ هذا التطور العلاقة بين تصور الحيازة للشيء المادي، بما هي حق ملكيته واقتصار هذه الحيازة على حق من الحقوق العينية الأخرى، ففي كلتا الحالتين يتعلق الأمر بحق عيني سواء كان حق ملكية أو حقاً آخر، فكل من الحيازة (التامة) وشبه الحيازة حيازة، ويصدق نفس المفهوم على أي حق عيني، وهكذا ورد في المادة 2228 من القانون المدني الفرنسي بأن "الحيازة هي إحراز شيء أو استعمال حق (شبه الحيازة) نحرزه أو نستعمله بأنفسنا أو بواسطة شخص آخر يحرزه أو يستعمله بالنيابة عنا" .
ويبدو جلياً أن القانون المدني الفرنسي أخذ بالنظرية المادية في القصد في الحيازة للشيء، إذ لم يبرز في التعريف الذي أورده عنصر القصد أو النية لدى الحائز، في ملكيته الشيء الذي يحوزه، وأكد على الإستعمال المادي للشيء من طرف الحائز نفسه أو بواسطة الغير، فالنية وفق النظرية المادية، هي ذلك الإستعمال المادي للشيء الذي تتحقق به السيطرة عليه، ولا يخضع للحيازة وفق القانون المدني الفرنسي الحقوق الشخصية، والأموال العامة، والمجموع من المال كالتركة والأصل التجاري
ب ـ تحديد مفهوم الحيازة الإستحقاقية في مدونة الحقوق العينية:
نصت المادة 239 من مدونة الحقوق العينية بأن الحيازة الإستحقاقية تقوم على السيطرة الفعلية على الملك بنية اكتسابه، وأضافت أنها لا تقوم لغير المغاربة مهما طال أمدها.
وأول ملاحظة يمكن إبداؤها على هذا التعريف أنه اقتصر على الحيازة للملك وهو يعنى به العقار أو حق الملكية، لا غير، مما يعطي انطباعاً بأن القانون المغربي تأثر بمفهوم الحيازة المادية التي تقتصر على حق الملكية، دون غيره من الحقوق العينية المتفرعة عنه، من حق انتفاع وسطحية وزينة وغيرها، وقد رأينا فيما سبق أن التطور في القانون المقارن، ولاسيما القانون المدني الفرنسي حصل من النظرية المادية المحضة للحيازة إلى حيازة الحق بغض النظر عن طبيعة هذا الحق سواء كان حق ملكية أو حقاً عينياً آخر، غير أن هذا النقص في التعريف يمكن القول بأنه متجاوز، لأن المدونة نصت في المادة 3 منها بأنه يترتب على الحيازة المستوفية للشروط القانونية اكتساب الحائز ملكية العقار غير المحفظ، أو أي حق عيني آخر يرد عليه إلى أن يثبت العكس، ويبدو لذلك أن تعريف المدونة في المادة 239 للحيازة الإستحقاقية ينبغي أن يقرأ كذلك مع المادة 3 منها، ويصبح استقراء النصين معاً يفيد أن الحيازة الإستحقاقية تقوم على السيطرة الفعلية على الملك أو أي حق عيني عقاري بنية اكتسابه.
أما ملكية العقار عند إطلاقها، وفق مفهوم المدونة للعقار الذي أصبح يختص بالأرض والبناء، والأشجار والثمار العالقة بها قبل فصلها، وما يوجد تحت الأرض أو عليها من منشآت، وما يثبت ويدمج في الأبنية من أشياء منقولة في أصلها، إضافة إلى العقار بالتخصيص الذي هو في أصله منقول، ويحاز حيازة عقار، ولم تبق الحقوق العينية العقارية من ملكية وغيرها، والدعاوى العقارية عقارات، مثلما كان يعتبرها ظهير 2/6/1915 السابق في الفصلين 5 و 8 منه، وإن كانت الحيازة يؤول الأمر فيها إذا تحققت شروط الملكية في سائر الحقوق العينية العقارية إلى اكتساب ذات الحقوق، ولو انصبت على العقارات محل هذه الحقوق، فالحيازة مع شروط الملك يملك الحائز بها الحق العيني الذي يحوزه ولا يمكن تصور أن الحيازة مع تلك الشروط يمكن فصلها عن مفهوم الحق العيني.
ونص المدونة في التعريف للحيازة الإستحقاقية على نية تملك الحائز للحق العيني العقاري واضح منه تبنيها للنظرية الشخصية في مفهوم الحيازة الإستحقاقية، وهو تعريف لم تخل منه مؤلفات بعض الفقهاء المعاصرين، ولاسيما من تناول منهم بالشرح الحقوق العينية، ونخص بالذكر ذ. مأمون الكزبري الذي عرف الحيازة، وأدخل في تعريفه مفهوم نية التملك للحائز ، وهذا المفهوم مصدره الأساسي النظرية الشخصية في عنصر القصد في الحيازة لصاحبها سافيني، كما سبق الذكر، وإن كان القانون المدني الفرنسي لم يعتمد هذه النظرية، واعتمد النظرية المادية لإهرنج.
وهذه المقاربة مختلفة تماماً عن مقاربة الشريعة الإسلامية، ولاسيما المذهب المالكي المطبق في العقار غير المحفظ، والذي تعتبر المدونة امتداداً له ويعتبر مرجعاً لها بعد ق.ل.ع، ذلك أن الفقه المالكي يشترط ـ كما سنرى بتفصيل ـ جهل مدخل الحائز إلى الحق العيني الذي يحوزه، ليستحق تملكه، فإن كان معلوماً بما ينقل الملك لا يستحق ملكه، وإن كان ناقلاً لملك يستحق الملك مثلما يستحقه مع جهل المدخل، ومعنى ذلك أن الحائز إذا دخل مدخلاً معلوماً غير ناقل للملك من كراء وعارية، وإسكان وغيرها لا يتملك الشيء أو الحق العيني بالحيازة مهما طالت مدتها، وهذه المقاربة، لا شك أنها منبنية على أن الأصل في الحائز أن يحوز الحق العيني بقصد تملكه، وعلى من يدعي خلاف ذلك أن ثيبته، مما لا حاجة معه إلى تضمين أحكام الحيازة عنصر النية في التملك، لأن مختلف الأحكام الأخرى المتعلقة بأوضاع الحائز من بيان مدخله، وأصل الشيء أو الحق العيني المحوز، ما إذا كان يعرف له مالك قبله أم لا كفيلة بأن يتبين منها موقف الحائزن هل هو يريد الملك أم أنه حائز عن غيره، ويمكن القول بأن النظرية المادية في الحيازة موافقة لمقاربة الشريعة الإسلامية، لعدم اشتراطها قصد الحائز إلى التملك، واعتبارها على العكس من ذلك أن القصدية والإرادية مضمرة بالضرورة في السيطرة التي هي جوهر الحيازة المكسبة للحق العيني للحائز.
ومن هذا المنطلق يمكن الذهاب في التحليل للمادة 239 من المدونة بأن التعريف الذي تبنته للحيازة الإستحقاقية اعتمدت فيه النظرية الشخصية في القصد في الحيازة إلى الملكية من طرف الحائز، بالنص صراحة على الإرادة في التملك لدى الحائز، ولكن ذلك لم يمنع من تقنين بقية أحكام الحيازة وفقاً للمذهب المالكي، في تفصيل هذه الأحكام، خاصة الحيازة المبطلة لملك سابق، وهي حيازة معلوم أصل الملك، أما مجهول أصل الملك فلم تتعرض له المدونة، ويبقى لذلك محكوماً بقواعد الفقه المالكي.
المطلب الثاني: تمييز الحيازة الإستحقاقية عن الحيازة العرضية:
تدل الحيازة على الملك إذا كانت استحقاقية ـ ولذلك ورد في التحفة لابن عاصم قوله
والأجنبي إن يحز أصلا بحق ~~ عشر سنين فالتملك استحق
وفي مختصر خليل وخاصة الحيازة الأولى، وهي الحيازة المكسبة للملك، أشار إليها بقوله "وصحة الملك بالتصرف وعدم المنازع، وحوز طال كعشرة أشهر وأنه لم يخرج عن ملكه في علمهم ، والفرق بين الحيازتين أن الحيازة التي ذكرها صاحب التحفة هي الحيازة المبطلة لملك سابق على الحائز بينما الحيازة التي ذكرها الشيخ خليل في النص المشار إليه، هي الحيازة الأولى ـ وهي الحيازة المكسبة ـ وإن كان الشيخ خليل، ذكر كذلك الحيازة المبطلة بقوله: وإن حاز أجنبي غير شريك وتصرف، ثم ادعى حاضر ساكت، بلا مانع عشر سنين، لم تسمع ولا بينته إلا بإسكان ونحوه.
واقتصرت المدونة على الحيازة المبطلة دون المكسبة، وإن كانت المبطلة تؤول إلى المكسبة بالنسبة للحائز، لأنها إنما أبطلت ملك الحائز السابق، واستحق بها الحائز اللاحق ملكية الشيء أو الحق العيني المحوز من طرفه.
وعلى هذا الأساس، فإن الحيازة الإستحقاقية تؤول إلى الملك بتوفر شروطه، وليس كذلك الحيازة العرضية التي يمكن مع ذلك أن تتداخل مع الحيازة الإستحقاقية إذا تعلق الأمر بالحائز المالك.
وعلى هذا الأساس، فإن الحيازة الإستحقاقية تؤول إلى الملك بتوفر شروطه، وليس كذلك الحيازة العرضية التي يمكن مع ذلك أن تتداخل مع الحيازة الإستحقاقية إذا تعلق الأمر بالحائز المالك.
الفرع الأول: أوجه الإختلاف بين الحيازة الإستحقاقية والحيازة العرضية:
يمكن رصد أوجه الإختلاف بين الحيازتين من الإطار القانوني لكل منهما (الفقرة الأولى)، ومن جوهرهما وآثارهما (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: النصوص المنظمة للحيازتين:
تنظم أحكام الحيازة الإستحقاقية مدونة الحقوق العينية في موادها من 239 إلى 263، وقانون الإلتزامات والعقود، والفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك، ولذلك فإن أحكام الحيازة الإستحقاقية هي بالأساس م.ح.ع، وإذا لم يرد بها نص، يرجع إلى ق.ل.ع وإذا لم يوجد نص فيه، يرجع إلى الراجح والمشهور أو ما جرى به العمل من الفقه المالكي، وهذا النص الذي جاء عاماً في جميع أحكام المدونة في إعطائه الأولوية لقانون ل.ع. على الفقه المالكي بشكل مطلق، لم يراع في الحقيقة خاصية بعض الموضوعات المقننة في المدونة، ومنها الحيازة، والتبرعات، وكان ينبغي الإحالة فيهما، فيما لم يرد نص فيه مباشرة إلى الفقه المالكي، عن طريق إضافة نص خاص بهذه الإحالة في الفصل الخاص بكل موضوع منهما، وإلا ما معنى الرجوع إلى ق.ل.ع في الحيازة والتبرعات بينما هو خلو منهما تماماً ولم ترد الحيازة فيه في الفصول 101 إلى 104 إلا بمعنى الحوز للشيء بالنسبة للحائز حسن النية والحائز سيء النية بمناسبة أحكام رد الشيء مع ثماره للمالك.
أما الحيازة العرضية فهي كائنة لكل من الحائز المالك والحائز عنه، وهذا الأخير هو الذي يصدق عليه الحائز حيازة عرضية، غير أن المالك حائز كذلك إذا اختار رفع دعوى الحيازة يتقيد فيها بشروطها، ولو كان مالكاً ـ ويمكن القول بأن الدعاوى الحيازية كما نصت عليها الفصول 166 إلى 170 من ق.م.م تتضمن قواعد موضوعية وإن نص عليها ق.م.م، ولذلك فان الدعاوى الحيازية تتطلب نوعين من الشروط، شروطاً شكلية شخصية من صفة وأهلية ومصلحة (الفصل1 ق.م.م)، وشروطاً شكلية موضوعية، هي المنصوص عليها في الفصول 166 إلى 169 من ذات القانون، وغني عن البيان أن هذه الدعاوى حصرية، وهي دعوى استرداد الحيازة المخولة لكل من الحائز القانوني (المالك) والحائز العرضي (الحائز لغيره)، ودعوى منع التعرض ودعوى وقف الأعمال الجديدة، ولا يرفعهما إلا الحائز القانوني إلا إذا انصب الإعتداء على ذات منفعة الحائز العرضي، ويمكن تلخيص شروط الدعوى الحيازية في:
1- حيازة عقار أو حق عيني عقاري مدة سنة، حيازة هادئة علنية متصلة غير منقطعة وغير مجردة من الموجب القانوني وخالية من الإلتباس، إلا إذا وقع الإنتزاع بالعنف أو الإكراه، فإن دعوى استرداد الحيازة يمكن رفعها ولو حاز الحائز مدة أقل من سنة بشرط أن تكون حيازته مادية وخالية وهادئة وعلنية (الفصل166 ق.م.م).
2- رفع الدعوى داخل أجل سنة من وقوع الفعل المخل بحيازة الحائز (الفصل 167 ق.م.م).
3- عدم سبق رفع دعوى الملكية بعد الإخلال بالحيازة للحائز القانوني إلا إذا كان قد رفع دعوى الملكية ووقع الإخلال بحيازته بعد ذلك جاز له رفع دعوى الحيازة رغم دعوى الملكية الجارية أو السابقة (الفصل 169 من ق.م.م.).
الفرع الثاني: اختلاف الجوهر والآثار بين الحيازتين:
إن جوهر الحيازة الإستحقاقية من وجهة نظر الفقه والمدونة على غراره ـ في حيازة شيء ـ أو حق عيني عقاري من الحائز، وهو مجهول أصل ملكه أو معلوم أصل ملكه، فيضحى ملكاً له يستحقه بما له من حيازة عليه، ولتوفر شروط الملك الدالة هذه الحيازة عليه والشاهد بها الشهود له، وسواء علم أصل الملك أو لم يعلم، إلا أنه يفرق في ذلك بطول المدة وصفة الحيازة المكسبة أو المبطلة، فهي مكسبة في مجهول أصل الملك، ومبطلة في معلوم أصل الملك، بينما الحيازة العرضية ولو كان الذي أرادها مالكاً ليست في جوهرها إلا مظهراً مادياً، لا يشهد فيها بالملك للحائز، ولا يكون له إلا حق شخصي ـ إذا كان ليس مالكاً ـ تجاه المالك .
ولذلك يصف الفقه الحيازة العرضية بأنها ليست حيازة صحيحة، فالحائز فيها لا يحوز لنفسه، ويحوز لحساب غيره، وينعدم بذلك عنصر القصد لديه في استعمال الحق لحساب نفسه، وإنما يوجد لدى غيره الذي يستعمل نفس الحق، مع توفر قصد الإستعمال، فمن يكري عقاراً أو حقاً عينياً عقارياً يستعمله لنفسه ويتضمن هذا الإستعمال القصد فيه وفق النظرية المادية أو أنه ينتوي فعلاً استعماله على سبيل حق الملكية للشيء أو الحق العيني وفق النظرية الشخصية.
ويتجلى الفرق بين الحيازتين كذلك في آثارهما، فالحيازة الإستحقاقية، كما سمتها المدونة أخذاً من مفهومها الفقهي ـ وهو استحقاق الحائز ملكية الشيء أو الحق العيني الذي يحوزه إذا توفرت مع حيازته شروط الملك ـ يترتب عنها حق الملكية للشيء المحوز أو الحق العيني من طرف الحائز، فتدل الحيازة على ملكيته لما يحوزه، لما يصاحب هذه الحيازة من مظاهر تفيد ملكه، من خلو المنازع، والإتفاق العلني على أنه له (النسبة)، واستمرار اتصال وضع يده لمدة يصدق الظن معها على صحة ملكه (طول المدة) علاوة على المظاهر المادية الدالة على ملكه كذلك المتجلية في مختلف التصرفات المادية والقانونية التي يجريها في الشيء المحوز (التصرف في الشيء أو الحق العيني).
أما الحيازة العرضية، وإن كانت تصدق على المالك كذلك، فهي لا تختص به ـ وإنما هي أعم من الملك ، ووجه العموم في الحوز أنه يكون بالملك وغيره من عارية مثلاً وإكراء ووديعة، والأعم (الحوز) لا يعارض الأخص (الملك) لأنه لا إشعار له بأخص معين .
وفي الحيازة العرضية كل من العنصر المادي (السيطرة المادية) والعنصر المعنوي (القصد في الإستعمال) يباشرهما الحائز القانوني (المالك) غير أن الإستعمال والسيطرة المادية يباشرهما بواسطة الغير، والقصد في التملك يباشره دائماً بنفسه، سواء كان الشيء أو الحق العيني تحت يده وسيطرته المادية أو كان هذا الشيء أو الحق بيد الغير، وبعبارة أخرى ليست الحيازة العرضية إلا وضعاً لليد من الغير الحائز نيابة عن المالك، ولا يكون للحائز العرضي قصد إلى التملك .
الفصل الثاني: شروط الملكية بمقتضى الحيازة:
الشيء أو الحق العيني العقاري قد يحاز من طرف حائزه وهو مجهول أصل الملك لمن هو قبل هذا الحائز، وقد يحاز مع علم أصل ملكه لمن هو .

المبحث الأول: حيازة مجهول أصل الملك لمن هو:
يشترط في هذه الحيازة لمجهول أصل الملك ألا يكون المحوز يعلم أصل ملكه لمن هو قبل الحائز الأول، وتسمى هذه الحيازة لذلك بالحيازة الأولى، لأنها أول ما حصلت في الشيء أو الحق العيني المحوز، وسواء كان الشيء عقاراً أو منقولاً، فإذا توفر شرط جهل أصل الملك، وحاز الحائز معه الشيء أو الحق العيني المدة المعتبرة شرعاً وتوفرت باقي شروط الملك من نسبة، وعدم منازع، وعدم علم التفويت في الشهادة للميت والشهادة بالملك والمال، على الرأي بهذا الشرط، وتصريح الشهود بهذه الشروط جميعاً ، بأن يشهد كل شاهد بخصوص كل شرط بذاته، فإن مدة الحيازة لا تتعدى 10 أشهر، وفي رأي آخر عاماً واحداً، ليستحق الحائز ملكية الشيء الذي يحوزه على تلك الصفة من شروط الملك.
وإلى هذه الحيازة أشار الشيخ خليل بقوله "وصحة الملك بالتصرف، وعدم المنازع، وحوز طال كعشرة أشهر، وأنه لم يخرج عن ملكه ، ولم يذكر هذه الحيازة صاحب التحفة، واقتصر على الحيازة المبطلة، وهي التي تطول مدتها 10 سنين بين الأجانب، والأقارب الذين بينهم عداوة، أو 40 سنة بين الأقارب، وقد ذكرها كل من أبي الحسن علي الزقاق في لاميته، بقوله:
يد نسبة طول كعشرة أشهر ~~ وفعل بلا خصم بها الملك يجتلى
وصاحب العمل الفاسي بقوله :
وحوز ما جهل أصله كفى ~~ عشرة أشهر أو العام وفى
وتختلف هذه الحيازة في مجهول أصل الملك عن الحيازة في معلوم أصل الملك في أنها لا تكون إلا في مجهول أصل الملك وفي مدتها التي لا تتعدى 10 أشهر.
ونظراً إلى اشتراط جهل أصل الملك فيها اعتبرت عن حق كما ذهب إلى ذلك فقيه وموثق الأجيال العالم جليل أبو الشتاء بن الحسن الغازي الحسيني، حيازة مثبتة للملك مع بقية شروطه، بينما اعتبر حيازة معلوم أصل الملك مبطلة للملك قبله، وذلك مع توفر بقية شروط الملك كذلك .
ولم تنص المدونة على الحيازة لمجهول أصل الملك، واقتصرت على حيازة معلوم أصل الملك، وذلك في المواد المتعلقة بالحيازة الإستحقاقية من 239 إلى 263.
ولا يعني عدم نص المدونة على الحيازة مجهول أصل الملك أن حيازة ما جهل أصل ملكه لمن هو هي كحيازة معلوم أصل الملك تستلزم حتى يستحق الحائز الملك بها، ويقوم دليل بذلك على ملكه أن تتوفر فيها مدة 10 سنين بين الأجانب، بل يرجع في ذلك إلى الفقه المالكي ويعمل بالحيازة المكسبة للملك فيما جهل أصله كملك متروك، ويجهل من تركه، ويحوزه حائز، فيكفي في مدة حيازته 10 أشهر مع توفر بقية شروط الملك، ذلك أن المادة الأولى من المدونة تقضي بأنه إذا لم يوجد نص فيها وفي ق.ل.ع يرجع إلى الراجح والمشهور وما جرى به العمل من الفقه المالكي.
إن الحيازة الأولى التي لا تحصل إلا في مجهول أصل الملك لمن هو، لا يمكن أن تتكرر كلما ظل صاحب الملك معلوماً، إلا إذا ترك ملكه، وأصبح مجهولاً من يملكه بفعل ذلك، يضحى هذا الملك قابلاً للحيازة المكسبة للملك. وطالما ظل معلوم المالك، ولو كان غائباً عنه مدة طويلة، فإنه لا سبيل إلى تملكه عن طريق الحيازة، مع توفر بقية شروط الملك إلا بالحيازة الثانية ـ وهي الحيازة المبطلة للملك قبلها، والقاطعة لحجة المالك السابق، مع توفر شروط عدم قبول قيامه على الحائز للمطالبة بملكه وهي كونه حاضراً ساكتاُ، عالماً بملكه، ولا مانع يمنعه من القيام بالمطالبة به ضد الحائز .
ولا تختلف الحيازة المبطلة لملك سابق قبلها عن الحيازة المكسبة، إلا في صفة أصل الملك وطول المدة، وكون الأولى مبطلة لملك مالك سابق، والثانية مثبتة لملك مالك لاحق، أما بقية شروط الملك، تبقى في كلا الحيازتين هي نفسها.

المبحث الثاني: حيازة معلوم أصل الملك لمن هو وشروط التملك بالحيازتين الأولى والثانية:
إن الملك وأي حق عيني عقاري، ولو ملكهما مالك، إذا حازهما حائز، وتوفرت مع حوزه شروط الملك، يستحق بذلك ملكهما، رغم وجود وعلم مالك قبله، ومن أجل ذلك سميت هذه الحيازة لمعلوم أصل الملك بالحيازة المبطلة لملك مالك سابق، وفي نفس الوقت، هي مثبتة لملك مالك لاحق (المطلب الأول) إلا أن هذه الحيازة كما الحيازة المكسبة، والخاصة بملك مجهول أصل الملك، لا يستحق بها الملك للحائز إلا مع توفر شروط الملك الأخرى (المطلب الثاني).
المطلب الأول: حيازة معلوم أصل الملك:
إذا علم أصل الملك للشيء المحوز لمن هو قبل وضع يد الحائز عليه فلا تكفي فيه مدة عشرة أشهر وإنما يشترط مرور عشر سنين على هذه الحيازة واستيفاء بقية شروط الملك الأخرى مع هذه الحيازة لكسب الحائز الشيء الذي يحوزه، وهذه الشروط كما ستأتي مفصلة هي: ذكر الشهود، وضع اليد للحائز، والتصرف منه، والنسبة من نفسه ومن الناس كذلك، وعدم المنازع، وطول المدة، وعدم التفويت في علم الشهود ، وشهادتهم بهذه الشروط مجتمعة مصرحين بها كل شرط على حدة.
وصورة إعمال هذه الحيازة علاقة بالحيازة المكسبة (حيازة مجهول أصل الملك) أن يدعي مدع على الحائز أنه مالك لما بيده من عقار أو حق عيني عقاري، ويدلي مع ادعائه ببينة مستوفية شروط الملك، فيعذر فيها إلى المدعى عليه فإن لم يجد فيها مطعناً فهي تدل دلالة ظنية على أن الملك هو للمدعين ولا تفيد بينته القطع لأن الفقه على ان الشهادات من حيث هي لا تفيد إلا غلبة الظن، وهو معنى قول الفقهاء: إنما تعمل البينة التي شهد شهودها بشروط الملك مع الحيازة له فيما جهل أصل ملكه. أي على سبيل غلبة الظن ان المشهود له هو المالك لأن مالكاً قبله ليس معلوماً إلى أن شهدت له البينة بالملك، فيقضى له بها حيث لا مطعن بعد أن يسأل الحائز ما إذا كانت له حجة على ملكه لما بيده فإذا أقر للمدعي بالملك وأنه دخل بكراء أو عارية ونحوهما مع ما استدل به المدعي من وثيقة ملكه بالبينة المستوفية شروط الملك ثبت له حق ملكيتها.
وإذا أجاب المدعى عليه بحوزه وملكه وأن الشيء بيده وأثبت حيازته عنه عشر سنين في الأصول من أرض أو بناء أو شجر مع القيود المتعلقة بالملك والحال أما المدعي حاضر ساكت بلا مانع وعالم بملكه فإن حقه يسقط ويبقى الملك المدعى فيه بيد حائزه لأنه أثبت حيازته المبطلة لملك المدعي ولو ثبت قبله، ولا يكلف ببيان وجه تملكه وإنما حيازته لتلك المدة مع توفر قيود الملك تكفي دليلاً على ملكه وفي ذلك قول الفقهاء: حيازة عشرة أعوام مع علم أصل الملك لمن هو عاملة لأنها قطعت حجة القائل مع علم أصل ملكه، ومحل قطعها إذا لم يعلم أصل مدخل الحائز أو علم وكان ناقلاً للملك من بيع وهبة ونحوهما .
وهذا الشرط المتمثل في جهل أصل مدخل الحائز أو علمه مع كونه ناقلاً للملك نصت عليه المدونة في المادة 264 بقولها: لا تقوم الحيازة ولا يكون لها أثر إذا ثبت أن أصل مدخل الحائز غير ناقل لملكه. واضافت: ولا يحق لواضع اليد أن يغير بنفسه لنفسه سبب وضع اليد على الملك محل ادعاء الحيازة ولا الأصل الذي تقوم عليه. وتعني هذه الفقرة الأخيرة منع تغيير صفة الحيازة العرضية وتحويلها إلى حيازة أصلية، فسند الحائز إذا كان يفيد حيازة عرضية تبقى حيازته على هذه الصفة ولو أراد أن يغير صفة حيازته بعقد النية على ذلك لا تتحول حيازته إلى أصلية او استحقاقية، فحيازة المكتري تبقى عرضية ولو عقد نيته أنه يحوز من أجل التملك حتى ولو أعلن نيته إلى المكري وامتنع عن أداء الكراء له.
لكن مع ذلك فإن تغيير صفة الحائز العرضي إلى حائز أصلي ممكن في إحدى حالتين:
أولاً: أن يصدر تصرف من الغير في العين المحوزة أو الحق العيني المحوز لفائدة الحائز العرضي ويكون ناقلاً للملكية له كان يشتري الحائز العرضي من شخص يعتقده هو المالك للعين التي يكتريها فتنقلب حيازته العرضية إلى أصلية من وقت شرائه.
ثانياً: أن يصدر تصرف بالتفويت من المكري إلى المكتري منه فيتحول من حائز عرضي إلى حائز أصلي نتيجة هذا التصرف إليه، وتبدأ الحيازة الإستحقاقية منذ شرائه كذلك .
وحيازة ما علم أصل ملكه كما سبقت الإشارة إلى ذلك ذكرها ابن عاصم في تحفته عند قوله: والأجنبي إن يحز أصلاً بحق ~~ عشر سنين فالتملك يستحق.
أما الشيخ خليل فقد ذكرها في مختصره فقال: وإن حاز أجنبي غير شريك وتصرف ثم ادعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع ولا بينته إلا بإسكان ونحوه.
والحيازة مع عم أصل الملك يشترط جهل المدخل فيها إلا إذا علم بما ينقل الملك من بيع وهبة ونحوهما، ولا يفيد الحائز الغاصب من حيازته مهما طالت شيئاً وعلى هذا الشرط صاحب التحفة بقوله: إن يحز أصلاً بحق
وقد اشترطت المدونة في المادة 241 نفس الشرط بان منعت الحيازة إذا كانت مبنية على عمل غير مشروع.
وقد يحصل الخلط بين أصل الملك وأصل المدخل بينما هما شيئان متغايران، فأصل الملك الذي يشترط جهله في الحيازة المكسبة وهي حيازة عشرة أشهر لأول حائز لملك لم يسبق إليه، يعني مالك الشيء الاول إذا كان معلوماً، وأصل المدخل هو وجه مدخل الحائز إلى الشيء الذي بيده هل هو معلوم أم مجهول، فالمدخل المعلوم بما لا ينقل الملك من كراء وإسكان وعارية لا تنفع الحائز فيه حيازته ولو طالت.
أما المدخل المعلوم من كل ناقل للملك من المدعي إلى المدعى عليه (الحائز) من شراء او هبة أو معاوضة فتعمل معه الحيازة المبطلة لملك الأول (المدعي) مع بقية شروط الملك، ونفس الحكم سار إذا كان مدخله مجهولاً .
ولم تعرض المدونة لبيان هذا الشرط في الحيازة المبطلة لملك قبلها، ومع ذلك فإن هذا الشرط لا غنى عنه، إذ أن بحث مدخل الحائز يفضي إلى بيان السبب الذي وضع به يده على الشيء أو الحق الذي يحوزه، وهذا السبب نصت المدونة على وجوب كونه مشروعاً، لكن ذلك لا يكفي، فقد يكون مشروعاً ولا ينقل الملك مثل العارية، الوديعة، والكراء، وقد لا يكون معروفاً لتقدير شرعيته من عدمها.
ولكن التكامل بين المدونة والفقه المالكي جاء النص صريحاً عليه في المادة الأولى منها، ولذلك فإن شرط جهل المدخل أو كونه معلوماً ناقلاً للملك في الحيازة المبطلة لملك قبلها لا مفر من بحثه في المنازعات بشأن الحقوق العينية العقارية لترتيب الآثار القانونية للحيازة.
المطلب الثاني: شروط الملكية للحيازتين المكسبة والمبطلة:
يمكن التمييز في هذه الشروط جمعا بين الفقه والمدونة بين شروط متطلبة في الشيء المحوز وشروط ترجع إلى علاقة الحائز بالمحوز عليه، وشروط خاصة بالمحوز عليه، وشروط التملك عن طريق الحيازة.
الفقرة الأولى: شروط الشيء المحوز:
تنص المادة 261 من المدونة على أنه: لا تكتسب بالحيازة أملاك الدولة العامة والخاصة.
الأملاك المحبسة.
أملاك الجماعات السلالية.
أملاك الجماعات المحلية.
العقارات المحفظة.
والأملاك الأخرى المنصوص عليها صراحة في القانون.
قبل صدور المدونة، كانت الإستثناءات من الحيازة الإستحقاقية يرجع في أساسها الشرعي أو القانوني إلى الفقه او القوانين الخاصة، فلا تحاز الأحباس حيازة استحقاقية لأن الأصل في الحبس أن يبقى ملكاً للمحبس في رقبته ، ولا تحاز الأملاك العامة نصاً على ذلك في ظهير 1 يوليوز 1914، والأراضي الجماعية طبقاص لظهير 27 أبريل 1919، والأملاك الغابوية وفقاً لظهير 10 أكتوبر 1917، والأملاك المحفظة حسب الفصل 63 من ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري
وبصدور المدونة، نصت في المادة 261 المذكورة صراحة على منع الحيازة الإستحقاقية في عدة عقارات نظراً لصفة الملك فيها وأضحى هذا النص عاماً في أنواع الأملاك العقارية غير القابلة للتقادم والحيازة.
الفقرة الثانية: الشروط المانعة من الملك بطريق الحيازة لصفة بين الحائز والمحوز عليه:
قننت المدونة هذه الشروط وجعلتها مانعة من الحيازة المبطلة لملك المحوز عليه وذلك في المادة 255 التي تقضي بانه: لا محل للحيازة بين الأب وابنه وإن سفل، ولا بين الأم وابنائها وإن سفلوا.
بين الأزواج أثناء قيام الزوجية.
بين الشركاء مطلقاً.
بين النائب الشرعي ومن هم إلى نظره.
بين الوكيل وموكله.
بين المكلف بإدارة الأموال العقارية وأصحاب هذه الأموال.
يعتبر منع الحيازة الإستحقاقية بين الأب وابنه وبين الزوجين وبين الشركاء في المدونة أمراً مستحدثاً ولا اصل له في الفقه، إذ الأب وابنه والزوجان أقارب بينهم، ولا تختلف الحيازة بين الأقارب في أثرها عن الحيازة بين الأجانب إلا في طول المدة متى لم يكن بين هؤلاء الأقارب عداوة، ولذلك ورد في تحفة ابن عاصم
والأقربون حوزهم مختلف ~~ بحسب اعتمارهم يختلف
فإن يكن بمثل سكنى الدار ~~ والزرع للأرض والإعتمار
فهو بما يجوز الأربعين ~~ وذو تشاجر كالأبعدين
فحيازة الأقارب غير الأب وابنه إذا لم يكن تصرفهم بالهدم والبناء تستمر مدتها أربعين سنة، من غير عداوة، وإلا كانت المدة عشر سنين كالأجانب، وإن كان التصرف بالهدم والبناء والغرس وكراء الدار أو الأرض مثلاً مع حضور قريبه المحوز عليه وسكوته وعدم وجود مانع له من المطالبة بحقوقه، فإن المدة على الرأي المعول عليه هي عشر سنين فقط لوقوع التصرف بأقوى الأشياء من هدم او بناء او غرس أو كراء، أما إذا كان بالبيع فمن وقت البيع دون أية مدة.
أما الأب وابنه فإنه لا حيازة بينهما إلا فيما يطول فيه الزمن، وتهلك البينات وينقطع العلم بذلك .
أما الحائز الشريك للمحوز عليه والأجنبي عنه أي غير قريب له فإن الحكم فيه في الفقه أن الشركة بينهما في الشيء المحوز تمنع استحقاقه من شريكه بالحيازة ولو طالت مدتها إلا إذا تصرف الشريك الحائز تصرفاً قوياً من مثل الهدم والبناء والغرس مع حضور شريكه وسكوته ونظره إلى تصرفه ومرور مدة عشر سنين فإن حيازته لتلك المدة مع مثل ذلك التصرفـ تقطع حجة وحيازة شريكه.
أما المدونة فقد منعت الحيازة بين الشركاء مطلقاً ويفيد لفظ مطلقاً منع هذه الحيازة بغض النظر عن نوع التصرف الذي تصرف به الحائز الشريك سواء كان تصرفاً قوياً من هدم أو بناء او غرس او لم يكن كذلك، فليس للشريك الحائز أن يتملك على شريكه بالحيازة مطلقاً.
ويعتبر منع حيازة النائب الشرعي على من هو إلى نظره لأمواله التي يحوزها في إطار نيابته عنه والوكيل على موكله تحصيل حاصل، لقيام شرط جهل مدخل الحائز أو كونه معلوماً بما ينقل الملك مانعاً من تلك الحيازة، فالنائب الشرعي والوكيل كلاهما معلوم مدخلهما وهو لا ينقل الملك.

الفقرة الثانية: الشروط الخاصة بالمحوز عليه:
يطلق على هذه الشروط إذا جاز أن تسمى كذلك في الفقه الأعذار أو الموانع للمحوز عليه من القيام على الحائز لمطالبته بملكه، وقد اعتبر الفقهاء منها الصغر والسفه والخوف من الحائز لكونه ذا سطوة أو مستنداً إلى ذي سطوة، وأدخل الفقهاء ضمن هذه الموانع المرأة المتزوجة التي يمنعها زوجها من الخروج ولا تتمكن من مخاصمة حائز ملكها، والمشتغل بالتجارة غدواً ورواحاً يشهد له الشهود أنه غير تارك لحقه، ومن غاب شهوده أو فقد حجته ووجدها الآن أو حضر شهوده ، كل هؤلاء يعذرون في رأي الفقه بتلك الأعذار، ولا يحاز عليهم إلا بعد زوالها إلا إذا أثبت الحائز ولو ببينة السماع الشراء من المحوز عليه أو موروثه وخاصة الصغير والسفيه بواسطة نائبهما وذي الخوف والمرأة الممنوعة من الخروج، فإنه ينتفع بحيازته مع إثباته الشراء ولو ببينة السماع.
ولا يجوز إثبات البيع بالبينة طبقاً للقانون الوضعي منذ صدور قانون الإلتزامات والعقود الذي ينص الفصل 489 منه على وجوب ثبوت بيع عقار أو حق عيني عقاري بالكتابة، وقد زادت المدونة من التقييد في قبول إثبات أي تصرف في حق عيني عقاري إلا عن طريق محرر رسمي أو محرر عرفي ثابت التاريخ يحرره محام مقبول أمام محكمة النقض.
أما المدونة فقد اعتدت في هذه الأعذار في المواد 245, 250, 256 بالإكراه وحصول وضع اليد خفية أي على غير مشهد من الناس أو على الأقل من المالك أو صاحب الحق الذي يستعمله واللبس في الحيازة كأن يحتمل أنه يحوز لنفسه أو لغيره ولا يكون قصده واضحاً في حيازته كوجود أشياء في الشياع ويحوز الشريك شيئاً منها ولكن استعماله يكون بنية أنه يوجد غيره يشاركه فيه، وعدم الإستمرار أو التقطع في المدة كأن يمضي في استعماله بين عمل وآخر فترة طويلة من الزمن لا يستعمله فيها والغيبة وعدم علم الملك له والصغر والخوف من الحائز لكونه ذا سلطة أو مستنداً إلى ذي سلطة ووجود مانع قاهر للمدعي يستحيل معه قيامه بالمطالبة ضد الحائز لملكه والذي يقدر القضاء في إطار سلطته.
ويلاحظ أن المدونة في مقاربتها لعيوب الحيازة الإستحقاقية أو أعذار وموانع المحوز عليه زاوجت في أخذها بها بين الفقه والقانون المقارن، فأدخلت موانع منصوص عليها في الفقه كالصغر والغيبة وعدم علم الملك والخوف من الحائز وأضافت إليها موانع واردة في القانون والفقه الوضعي المقارنين من قبيل عدم تقطع والإكراه واللبس والمانع القاهر من القيام على الحائز، ولم تذكر عذر السفه للمحوز عليه إلى زواله.
ويطرح السؤال ما إذا كانت هذه الموانع في المدونة حصرية أم أن بالإمكان الرجوع فيما لم يرد فيها إلى الفقه المالكي؟
إن قيام مانع السفه مثلاً منصوص عليه فقهاً يمكن أن يؤول عليه المانع القاهر الوارد في المدونة وكذلك المرأة المتزوجة الممنوعة من الخروج.
الفقرة الرابعة: شروط الملكية عن طريق الحيازة:
لا تعد الحيازة دليلاً على الملك وفقاً للفقه الإسلامي بصفة عامة، إلا إذا توفرت معها عدة قيود هي شروط الملكية، وهي المشار إليها في لامية الزقاق بقوله:
يد نسبة طول كعشرة أشهر ~~ وفعلا بلا خصم بها الملك يجتلا
وهل عدم التفويت في علمهم كما ~~ ل أم صحة للحي للميت ذا إجعلا
والشيخ خليل بقوله: وصحة الملك بالتصرف وعدم المنازع وحوز طال كعشرة أشهر وأنه لم يخرج عن ملكه في علمهم وتؤولت على الكمال في الأخير .
وقد أوصل الفقهاء هذه الشروط إلى سبعة وهي:
1. وضع اليد أو الحوز.
2. تصريح الشهود بان المشهود به مال وملك للمشهود له ومن جعل شروط الملك خمسة لم يذكر هذا الشرط.
3. تصرف الحائز بمختلف أنواع التصرف في ملكه.
4. نسبة المشهود له الملك لنفسه والناس إليه كذلك.
5. عدم المنازع طيلة مدة الحيازة
6. عدم تفويت المشهود له لملكه
7. تصريح الشهود بهذه الشروط جميعاً.
والشروط الستة الأولى يشهد بها على البت والقطع، والشرط الأخير لا يشهد به إلا على العلم وإلا بطلت الشهادة لتعذر قطع الشهود فيه، فقد يفوت المشهود له ملكه سراً دون أن يطلع الشهود عليه وفي ذلك قول ابن رشد: إذ لا يصح للشاهد أن يشهد بمعرفة الملك حتى يغلب على ظنه أنه لم يبع او لم يفوت فهي محمولة على الصحة.
ثم إن هذا الشرط، عدم علم التفويت يعتبر شرط صحة في المشهود له الميت وشرط كمال في المشهود له الحي، وهو معنى قول الزقاق السابق
وهل عدم التفويت في علمهم كما ~~ ل أم صحة للحي للميت ذا اجعلا
وقول خليل: وتؤولت على الكمال في الأخير، وهو عدم خروج الملك من المشهود له الحي.
وقد تقرر من كلام الفقهاء أن كل من شهد له بظاهر وجب أن يستظهر على باطنه باليمين، وفي شرح ميارة للتحفة عند قولها:
ثم الشهادة لدى الأداء... قوله
ولا يكفي عن يمين الإستحقاق قول الشهود وما يعلمونه باعه ولا وهبه لأنهم إنما نفوا العلم فقط لأنهم شهدوا للملكية على البت وباستمرارها على العلم، فاليمين في مقابلة دعوى ما لم يعلمه الشاهد من عدم استمرار الملك
وبناء على ذلك فإن مدعي الحيازة الإستحقاقية يحلف يمين الإستحقاق كلما كانت بينته مشهوداً فيها بالملك لميت لقيام شرط عدم علم التفويت فيها شرط صحة.
أما شرط عدم المنازع الذي يشهد به على القطع فقد اعتبر الفقه فيه وقوع المنازعة ولو مرة واحدة، ولا يشترط عرض النزاع على القاضي، بل كل منازعة ولو أمام غير القاضي تنخرم بها الحيازة ولا تستمر مدتها، وتبدأ مدة جديدة .
وقد اعتمدت المدونة


TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *